كيف يمكن للتاريخ أن يساعدنا في فهم فيروس كورونا والتعامل معه؟

على مرِّ التاريخ، أصابتنا العديد من الأمراض التي انتقلت إلينا من الحيوانات. وهذه بعض الدروس التي يجب أن نتعلَّمها.

Share your love

لماذا الخفافيش؟

على مرِّ القرون، انتقل إلى البشر عشرات الأمراض المعدية من الكائنات الأخرى، وكان آخرها كوفيد 19 (COVID-19) أو مايعرف بفيروس كورونا المستجد. نقلت إلينا القوارض 32 مرضاً (أشهرها الطاعون)؛ والخنازير 42 مرضاً (بما في ذلك الإنفلونزا)؛ والخيول 35؛ والأغنام والماعز 46؛ والأبقار 50؛ والكلاب 54 (بما في ذلك داء الكلب والقوباء الحلقية) والدواجن 26. في حين أنَّ الفيروسات التاجية، بما في ذلك السارس وفيروس كورونا، تعيش في الخفافيش. وأغلب الظن أنَّ فيروس كورونا قد يكون انتقل من هذه الثدييات المجنَّحة إلى البشر عبر حيواناتٍ وسيطةٍ مثل: آكل النمل.

عندما قام البشر بتدجين الحيوانات والتعامل معها تدريجياً، حصلنا على إصاباتٍ جديدةٍ غيَّرت الحضارات. لكلِّ ميكروب “مضيفٌ طبيعي”، حيث يعيش صنفٌ فيروسيٌّ واحدٌ أو أكثر داخل جسم المضيف بشكلٍ متوازن. وفي هذه المساكن الطبيعية (الأجسام المضيفة)، تزدهر هذه البكتيريا والفيروسات في تآزرٍ صحيٍّ ومتناغمٍ بشكلٍ عام، دون التسبُّب بالمرض، وهذا ما يسميه العلماء: التكافل.

على سبيل المثال: تُؤوي الأمعاء البشرية ملياراتٍ من بكتيريا الإشريكية القولونية، والتي تهضم بدورها طعامنا من أجل مزيدٍ من البروتينات والسكريات الأساسية التي يمكننا امتصاصها بعد ذلك. إنَّ أيَّ ميكروبٍ يقتل مضيفه الطبيعي سيفقد صفة الميكروب المفيد. تحتاج العوامل المعدية إلى نوعٍ واحدٍ من الكائنات الحية أو أكثر، لتتمكَّن من العيش فيه دون تدميره. وبمرور الوقت، عادةً ما يكون لدى هؤلاء المضيفين مناعة.

ولكن عندما تتفاعل الأنواع المختلفة فجأةً بشكلٍ وثيقٍ خارج مساكنها الطبيعية (الأجسام المضيفة) التي تطورت فيها على مدى ملايين السنين؛ يمكن أن تنتشر الميكروبات بينها وتسبِّب ما يسمَّى بمرضٍ ذي منشأ حيواني. في نهاية المطاف، إمَّا أن تطوِّر الأنواع المضيفة الجديدة مقاومةً لهذا المرض، أو تنقرض.

فعلى سبيل المثال: ينتج الجدري عن فيروسات الجدري التي تتخذ من القوارض مسكناً طبيعياً لها، والتي قد تصيب الأبقار أحياناً مسبِّبةً جدري البقر، والذي يتحوَّل بعد ذلك إلى مرضٍ حيواني ينتقل إلى البشر مسبِّباً مرض الجدري بشكله المعروف عند البشر.

منذ عدة آلافٍ من السنين، وبعد تزايد أعداد الأبقار الهندية الأوروبية، انتشرت أوبئة الجدري، ممَّا أدَّى إلى تدمير البشرية بشكلٍ متتالٍ، وأسفر عن مقتل 35٪ من المرضى، والتسبُّب بظهور ندوبٍ دائمة في وجوه الناجين.

وفي عام 1492، عندما دخل كولومبوس وطاقمه منطقة البحر الكاريبي، أحضروا الجدري معهم. بالنسبة إلى السكان الأصليين الذين لم يتعاملوا أبداً مع الأبقار، وبالتالي لم يتعرَّضوا إلى هذا المرض من قبل، فقد افتقروا إلى المناعة. وسرعان ما أهلك المرض القرى والمدن، متسارعاً في الانتشار على طول الطرق التجارية، بما في ذلك المدن التي امتدت من الساحل الكاريبي أسفل جبال الأنديز، إلى البيرو. وفي الوقت الذي وصل فيه المستكشف الإسباني “فرانسيسكو بيزارو” إلى بيرو في عام 1531، بعد 40 عاماً تقريباً من كولومبوس، قتل الجدري كلَّاً من ملك الإنكا ووريثه، ممَّا تسبب بحربٍ أهلية، وبإضعاف الإمبراطورية؛ فلم يجد بيزارو بجيشه الممزق المكون من 180 رجلاً صعوبةً كبيرةً في غزو واحدةٍ من أعظم الحضارات التي شهدتها الأرض حتَّى الآن.

في عام 1798، لاحظ الطبيب البريطاني إدوارد جينر (Edward Jenner) أنَّ الخادمات اللواتي يحلبن الأبقار ظهرت بثورٌ على أيديهن بسبب ملامسة بثورٍ على ضروع الأبقار، ولكن بالرغم من ذلك فقد ظلَّت بشرتهنَّ نقيةً ولم يُصبنَ بالجدري أبداً. فأخذ جينر صديداً من يد خادمةٍ وحقنه في صبي صغير، وبعد أسبوعين، قام جينر بتلقيح الصبي بالجدري، واكتشف أنَّ الطفل قد اكتسب مناعةً ضد هذا المرض.

نظراً لأنَّ الكلمة اللاتينية للبقرة هي “vacca”، وجدري البقر هو “Vaccinia”، أطلق جينر على هذا التطعيم الاسم الجديد -الذي نستخدمه الآن في اللغة الانكليزية “vaccination”- ويُستَخدَم هذا المصطلح للدلالة على العملية التي تهدف إلى منع الإصابة بأمراضٍ أخرى، وهو ما نسميه: اللقاح.

على مرِّ القرون، نشرت الحروب والتجارة مسبِّبات الأمراض بين سكَّان المناطق النائية، ممَّا تسبَّب بالأوبئة المتكررة. ولكن، في نهاية المطاف، انتشرت هذه الميكروبات إلى جميع المناطق المترابطة. على مدى القرون القليلة الماضية، عمل العلماء في العديد من البلدان -الولايات المتحدة، وكندا، وأوروبا، واليابان، وأستراليا، وكوريا، وأماكن أخرى- معاً لتبادل الأفكار والبيانات للقضاء على العديد من الأمراض.

دعم كلٌّ من الحكومات والقادة المدعومين من الجيش، العلوم بطرائق جديدة. وكمثال: بعد أن تخلَّى الفرنسيون عن جهودهم لبناء قناة (بنما) نتيجة وفاة العمَّال بسبب الملاريا والحمى الصفراء، تولَّت الحكومة والجيش الأمريكي هذه المهمَّة، وخصَّصوا موارد هائلةً لدراسة هذه الأمراض ثمَّ مكافحتها. بحلول السبعينيات، اكتُشِفَت مضاداتٌ حيويةٌ فعَّالةٌ ولقاحاتٌ ضدَّ شلل الأطفال والحصبة وأمراضٍ أخرى، وتغلَّبت الإنسانية على هذه الأمراض المعدية ونجت منها. تفاخر العديد من الأطباء الرائدين بأنَّ عصر الأمراض المعدية قد انتهى، وفقد مجال الأمراض المعدية هيبته.

ولكن في الثمانينيات، ظهر فيروس نقص المناعة البشرية، يليه مرض جنون البقر، وإنفلونزا الطيور، والسل شديد المقاومة، والسارس، والآن فيروس كورونا المستجد؛ فما الذي سبَّب هذه الأمراض الحيوانية المنشأ؟

قدَّمت التقنيات الجديدة طرائق إضافيةً للجراثيم للانتقال بين الأنواع الحية. حوالي عام 1950، أرسل الأطباء البلجيكيون إبراً تحت الجلد إلى الكونغو لتقديم المضادات الحيوية المتاحة حديثاً، ولكن كان لدى الأطباء عددٌ محدودٌ من الإبر، وبالتالي أعادوا استخدامها دون تنظيفها. اتضح أنَّ القرود الإفريقية مضيفةٌ لميكروبٍ انتقل إلى الإنسان في حقبة عشرينيات القرن العشرين -وربَّما انتقلت في البداية إلى صيادٍ كان يُقطِّع ويأكل قردة الشمبانزي- يُعرَف باسم فيروس نقص المناعة القردي (SIV)، والذي تطوَّر ليصبح فيروس نقص المناعة البشرية (HIV).

وفي حوالي عام 1950، استخدم الطبيب إبرةً لمريضٍ مصابٍ بفيروس نقص المناعة البشرية، وأعاد حقن أشخاصٍ آخرين بها دون أن ينظفها، ممَّا أدَّى إلى انتشار الفيروس. في نهاية المطاف، أصاب فيروس نقص المناعة البشرية أكثر من 40 مليون شخصٍ في جميع أنحاء العالم، ولا يزال حتَّى اليوم مستمراً في الانتشار.

وبعيداً عن الطب، يمكن للتطورات التكنولوجية أن تنشر الميكروبات بين الكائنات الحية أيضاً. ففي السبعينيات، بدأت شركات إنتاج اللحوم الكبيرة تحل محل صغار مزارعي الماشية. ولخفض التكاليف، بدأت المصانع بطحن عظام الأغنام ومعالجتها كيميائياً، واستخدام بقاياها كعلفٍ للماشية، وسرعان ما انخفض سعر لحم البقر بنسبة 50٪. لكنَّ الأغنام تحتوي على بروتيناتٍ معديةٍ صغيرةٍ تسمَّى: البريونات والتي تسبِّب أحياناً مرضاً مميتاً يسمى: “الراعوش”.

في الثمانينيات، وبعد الانفجار الكيميائي في مصنع طحن العظام، خفضت رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر (Margaret Thatcher)، اللوائح والأنظمة التي تنظم المعالجة الكيميائية. جرى بعد ذلك تغذية بقايا الأغنام التي تحتوي على البريونات المسبِّبة لمرض “الراعوش” إلى الماشية، والتي طوَّرت لأول مرةٍ اعتلال الدماغ الإسفنجي البقري، أو مرض جنون البقر. ولقد أكل مئات البشر لحوم هذه الأبقار وماتوا.

مع فيروس كورونا، تسبَّبت التغييرات التكنولوجية بانتشار الفيروس بمجرد انتقاله إلى بعض الأنواع. لطالما تغذَّى الصينيون وأكلوا الأنواع الغريبة، واستخدموا أجزاءً منها في الطب التقليدي لآلاف السنين. لكن هذه المرة، يبدو أنَّ فيروس كورونا انتفل من حيوان “آكل النمل” إلى الناس في سوقٍ للمأكولات البحرية في ووهان (المدينة الصينية التي بدأ فيها الفيروس).

كانت هذه المدينة معزولةً نسبيَّاً عن بقية العالم في السابق، والتي تغيَّرت أحوالها في العشرين عاماً الماضية مع نمو الصين كقوةٍ اقتصاديةٍ عظمى، حيثُ أصبح عددٌ أكبر من سكانها من الطبقة المتوسطة، وأصبحوا قادرين على السفر. في عام 2016، سافر أكثر من 20 مليون شخصٍ من وإلى ووهان – حاملين معهم أمراضهم.

ماذا يجب أن نفعل بشأن هذه الأمراض التي تنتقل بين كائن وآخر؟

لا يمكننا الرجوع بالزمن والتفاعل بشكلٍ أقلَّ مع هذه الحيوانات المتنوعة، ولكن يجب أن نعدَّ أنفسنا بشكلٍ أفضل للحالات الحتمية مثل: فيروس كورونا.

يمنحنا العلم الحديث الآن الأدوات، لكنَّنا نحتاج إلى استخدامها بشكلٍ أفضل، وفي وقتٍ مبكرٍ واستباقيٍّ قدر الإمكان.

بعد السارس، لاحظ الباحثون أنَّ الخفافيش كانت تؤوي سلالاتٍ إضافيةً من الفيروسات التاجية التي لديها أيضاً القدرة على مهاجمة الخلايا البشرية -لقد كانت مسألة وقتٍ فقط قبل أن تفعل هذه الميكروبات ذلك- لكنَّ الحكومات تجاهلت التهديد، ولم تموّل الأبحاث لتطوير اللقاحات.

إنَّ نوع التعاون بين العلماء الذين ساعدوا الإنسانية في معظم القرن الماضي، مهدَّد حالياً. فعلى سبيل المثال، ترفض الحكومة الصينية الآن السماح للبيانات الجينية من أيٍّ من مواطنيها بمغادرة البلاد.

المعلومات الحاسمة غير متاحةٍ للباحثين الخارجيين فيما يتعلَّق بما إذا كان علم الوراثة لدى بعض الأشخاص يجعلهم أكثر عرضةً إلى هذا الطاعون الجديد، أو يوفِّر عدم التعرُّض إلى الخطر – كنوع الظاهرة التي لاحظها إدوارد جينر. يمكن لهذه المعلومات أن تساعد في تطوير العلاجات واللقاحات وإنهاء الإغلاق الوقائي في جميع أنحاء العالم.

على مدار الثلاثين عاماً الماضية، استبدلت الشركات أيضاً الحكومات كممولين رئيسيين للأبحاث الطبية الحيوية، ولكنَّها ترفض أيضاً بشكلٍ متزايدٍ مشاركة البيانات الوراثية وغيرها من البيانات للمرضى، حيث تعدُّ هذه المعلومات ملكيةً حصرية تؤثر على الأرباح. لسوء الحظ، فإنَّ العديد من المستشفيات والمؤسسات الأكاديمية غير الهادفة للربح أيضاً، تبيع الآن معلومات مرضاها إلى الشركات التي تقوم بعد ذلك بنشرها.

يسلِّط التاريخ الضوء على كيفية تجاوز الأوبئة للحدود الوطنية، والاجتماعية والثقافية، والسياسية؛ وكيف أنَّها ليست مجرد حالاتٍ طبية، ويجب النظر إليها بكونها أكثر من مجرد ذلك.

لقد هزم البشر الأوبئة في الماضي من خلال الشجاعة والتعاون الدولي الوثيق. يمكن أن تقرِّبنا الجهود من التغلُّب على فيروس كورونا أيضاً، وتوحِّدنا كنوع. لكنَّنا بحاجةٍ إلى العمل لتعلُّم هذه الدروس التي يعطينا إياها التاريخ، وبالتأكيد: قبل أن ينتقل الميكروب التالي إلينا من مضيفيه الطبيعيين، كما سيحدث حتماً في وقتٍ لاحق.

 

المصدر

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!