لبنان: انهيار معلنٌ والليرة قطعت حبل خلاصها… ولا «غودو» في الأفق!

وهكذا، صار رغيف الجوع عنوان المرحلة، حال اللحظة، حلم اللاهث للحياة في وطن على شاكلة جغرافيا متفلتة من عقالها وتاريخ لا يتعلّم من تاريخه. قطعت الليرة اللبنانية، تلك الورقة المُغتصبة، حبل الخلاص وخرجت إلى فضاء العوز المذّل، مخترقة الحاجز الوهميّ لرقم عشرة آلاف مقابل الدولار الأمريكيّ الواحد. وبذلك تكون قد فقدت 85 في المئة من […]

لبنان: انهيار معلنٌ والليرة قطعت حبل خلاصها… ولا «غودو» في الأفق!

[wpcc-script type=”8e26817a31788599feb77eff-text/javascript”]

وهكذا، صار رغيف الجوع عنوان المرحلة، حال اللحظة، حلم اللاهث للحياة في وطن على شاكلة جغرافيا متفلتة من عقالها وتاريخ لا يتعلّم من تاريخه. قطعت الليرة اللبنانية، تلك الورقة المُغتصبة، حبل الخلاص وخرجت إلى فضاء العوز المذّل، مخترقة الحاجز الوهميّ لرقم عشرة آلاف مقابل الدولار الأمريكيّ الواحد. وبذلك تكون قد فقدت 85 في المئة من قيمتها قبيل تفجّر الأزمة الماليّة الأخيرة، لينخفض معدّل دخل الفرد إلى واحد من أدنى مستوياته التاريخيّة في لبنان وأقل من مثيله في دول فقيرة مثل بنغلادش، ناهيك عن جبل من الديون الداخليّة والخارجيّة، التي سرقت قيمتها طغمة فاسدة، بينما الاقتصاد المحليّ عاجز عن سدادها ولو خلال مئة عام مقبلة.
اللبنانيّون أصحاب الطحين المسروق والأفئدة المُباعة، احتفلوا في المناسبة على هيئة من يرقص في عزائه، رافعين تابوت الليرة عالياً، تمحلقوا حول الشاشات التلفزيونيّة لمتابعة انطلاق مظاهرات واحتجاجات متنقلة لا تلوي على شيء، وليشهدوا على احتراق جثة وطن، ولم تحتج القوى الأمنيّة حتى للاشتباك مع أحد واكتفت في أغلب الأوقات بإعادة فتح الطرقات.
وهذا كان يحدث، بينما ما زالت الطبقة الحاكمة بمعازلها غارقة في لجّة جدالات بيزنطيّة حول من جانبه الصواب: رئيس الجمهوريّة أم رئيس الوزراء المكلّف، ومن المخطئ في اتخاذ قرار تلقيح عدد من أعضاء مجلس النوّاب قبل موعد الاستحقاق، وهل التخلّي عن السلاح ثمن لإنقاذ الاقتصاد. ويصفّق أغلب الإعلام لمهرجان الجنون هذا معتمداً على المنجمين والعرّافات في تصور المستقبل وعلى الدّجالين والكذبة لمناقشة حقوق هذه الأقليّة أو تلك. وكأن غالبية شاشات ذلك اللبنان تحولت إلى دفاتر عائلية تُخندق ناسها في مساحات الاستقطاب الطائفي والمذهبي. فلا نستفيق إلا على حقوق المسيحي، واستقواء الشيعي، واستضعاف السني حتى لا نكاد ننتهي من تعداد تلوينات الفسيفساء اللبنانية.
ومع ذلك فإن الجميع وكأنّهم بانتظار سحر ما سيخرجهم من هذي الحفرة التي سقطت بلادهم في وحولها. مبادرة رئيس ما، عطف عاهل ما، مؤتمر في عاصمة ما، اتفاق في منتجع ما أو إدارة جديدة في بلد ما. لكن الحقيقة الباردة التي ينبغي أن يستيقظ عليها اللبنانيون هي أنّ بلادهم المختلقة على يد الاستعمار الفرنسي / البريطاني تعيش ما يعرف بحال الانحطاط، وأنّ انهيارها قد أصبح في مرحلة متقدّمة وفق مختلف المقاييس التي يستعملها الخبراء في هذا المجال، وبوارد الانتقال إلى المستوى الذي لا تفلح معه محاولات الإنقاذ، مما يعني نهاية الدّولة وتفكك المجتمع والتحوّل إلى غابة مستشرسة.
بالطبع هذا التصوّر ليس تشاؤماً، ولا ديستوبيا روائيّة. فسجلات التاريخ مليئة بقصص مجتمعات اندثرت وخبا ذكرها، ومنها مجتمعات معاصرة تحوّلت إلى دول فاشلة أو انتهت عمليّاً لمصلحة صعود دول أخرى مختلفة تماماً. ولعل البعض لم ينس كيف تفككت الدّولة في الصومال العربيّ ولم تستعد عافيتها وتحوّل البلد إلى مجموعة مزارع عرقيّة متنازعة تديرها مافيات وقراصنة وقطاع طرق وهياكل شكليّة لقوات شرطة محليّة في مناطق محدودة بالعاصمة القديمة. وإذا قال البعض ذلك الصومال القصيّ والفقير، فلنذكّرهم بانهيار الاتحاد السوفياتي الدّولة العظمى التي تبخرّت بنظامها (الاشتراكي) وترسانتها النووية وبرامجها الفضائيّة خلال يوم وليلة، ليستيقظ السكان في الصباح التالي على فوضى رأسمالية متوحشة أنجبت دولة قوميّة جديدة تماماً لا علاقة لها بالاتحاد السابق، تولّى جيل كامل على الأقل دفع ثمن استقرارها عذابات وآلاماً وذلاً.

المراحل الخمس للانهيار

يقول خبراء في ظاهرة انحطاط المجتمعات، إن الانهيار يأخذ وقتاً يمتد لسنوات وقد يصل إلى عقود أحياناً، وأنّه في ذلك يمرّ عبر مراحل خمسة متعاقبة: أولها انهيار ماليّ، يؤدي إلى فشل اقتصادي ومن ثم انهيار سياسيّ يتلوه انهيار اجتماعي وينتهي بانحلال ثقافيّ شامل. وحسب هؤلاء، فإن الانتقال بين الدرجة الثالثة والرابعة – أي من الانهيار السياسي إلى الاجتماعي – لا يعود بعده ممكناً إصلاح الأشياء، ويصبح الاندثار محتماً لا رجعة فيه.
وبتطبيق هذا الأنّموذج على المجتمع اللبنانيّ يتكشف أن الجمهوريّة تجاوزت درجة الانهيار الماليّ منذ بعض الوقت بعدما سرقت معظم أموال المودعين في البنوك وتراكمت الديّون الداخليّة والخارجيّة على الدّولة اللبنانيّة.
الانهيار الاقتصاديّ التجاري كان أكثر بروزاً للعيان ومسّ بحياة المواطنين العاديين.
المرحلة التي يعيشها لبنان الآن هي بدايات الإنهيار السياسي حيث تأزّم حاد يمنع من تشكيل حكومة تتولى إدارة الأزمة رغم أن المرشحين لذلك هم من ذات الأطقم التي دمّرت منهجيّاً اقتصاد البلاد وشبكته الاجتماعيّة عبر عقود من الفساد والمحسوبيّات والتقاسمات الطائفيّة للمصالح. ومع أن النظّام السياسيّ لم يسقط بعد بفضل استمرار بعض الأجهزة الحكوميّة بالعمل (القطاع الصحي مثلاً ودائماً بفضل المساعدات والقروض الاستثنائية الدوليّة) فإن العجز كان ظاهراً في التعامل مع حادثة انفجار المرفأ، وانعدام السيطرة الأمنية على أجزاء واسعة، وانتشار اللصوص والبلطجيّة والجواسيس في طول البلاد وعرضها، وتزايد حمل الأسلحة الفرديّة واستعمالها مع خلل في حماية السجون ومرافق الدولة وظهور معالم فساد وتفكك في الجيش والأجهزة الأمنيّة.
وهذا كلّه في وقت تبدو السلطة التشريعيّة وكأنها معنيّة حصراً بحماية نفوذ زعماء الطوائف وكبار الفاسدين، والسلطة القضائيّة ملعب تنازع للقوى السياسيّة، فيما السلطة الرابعة (الإعلام) بلا سلطة، وتلعب في غالب الأحايين دوراً أقرب للنكتة السمجة.

الآتي أسوأ: تصدّع النظام العام

استمرار الإنهيار السياسي ووصوله إلى نهاياته – ما لم يتم تدارك الأمور بصفة عاجلة – سيكون الأكثر إيلاماً مقارنة بالدرجتين السابقتين، وقد يهدد حياة الكثيرين بشكل مباشر، إذ أن تصدّع النظام العام سوف يكون خطيراً بشكل خاص في بلد مثل لبنان بسبب عديد المشاكل الاجتماعية التي كنست تحت السجادة على مر السنين. فهناك جهات مسلحة، ويعجز النظام عن فرض أحكام عرفية مما يعني هامشاً عريضاً لتوسع حالة الفوضى والخروج عن القانون. لكن الأخطر أنّ الوصول إلى تلك النهايات سيفتح الباب للانتقال إلى الدرجتين الأخيرتين أي الانهيار الاجتماعي والثقافيّ. وبالطبع فإن هنالك مظاهر لهاتين الدرجتين قد حدثت بالفعل في أجزاء كثيرة من البلد إلى حد مشهود.

الهاوية قد فغرت فاهها

هل يمكن للبنان أن ينجو من تسارع انهياره ووقوفه على العتبة بين الانهيارين السياسيّ والاجتماعي بدون مساعدة خارجيّة أو بلا حدوث تغيير حاسم؟ حسب الخبراء يمكن تأخير الانهيار ربما لبعض الوقت من خلال تعلم العيش دون الحاجة إلى الكثير من الاستهلاك، وإنشاء ترتيبات معيشية بديلة وشبكات إنتاج وتوزيع غير رسمية لجميع الضروريات قبل حدوث انهيار تجاري تام، وربما نشوء مجتمعات محليّة صغيرة تتمتع بنوع من حكم ذاتي يمكنها توفير الأمن لسكانها أثناء الانهيار السياسي. وهذه الخطوات مجتمعة قد تضعنا على سكّة حماية لحمة المجتمع وثقافته لحين استعادة النظام السياسي لقدرته على الفعل.
ذلك كلّه، سواء حلول الإنقاذ السريع أو تكتيكات شراء الوقت، بحاجة إلى تكاتف اللبنانيين معاً بدلاً من تنافسهم وتصارعهم، فيما الوقائع على الأرض تشير إلى حال تخندقات سياسية وطائفية وطبقية تحكم سلوك مختلف الفئات في هذا البلد المنكوب. وبدون صحوة ولو متأخرة، فإن الهاوية صارت قاب (درجتين) أو أدنى، ولا «غودو» في الأفق.

 إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!