ليس في كلام العرب

ليس في كلام العرب ثمة علم نادر من علوم العربية يعتني ويهتم باستقصاء القواعد المضطردة ليس للتراكيب والاستخدامات المستعملة في اللغة العربية؛ وإنما يقعد لتلك المفردات والتراكيب التي لم تستخدم في اللغة أو استخدمت في ألفاظ محصورة وهذا العلم من أطرف وأندر العلوم وهو يدل على تمكن فقهاء العربية من أزمة نواصيها..

ليس في كلام العرب

ثمة علم نادر من علوم العربية يعتني ويهتم باستقصاء القواعد المضطردة ليس للتراكيب والاستخدامات المستعملة في اللغة العربية؛ وإنما يقعد لتلك المفردات والتراكيب التي لم تستخدم في اللغة أو استخدمت في ألفاظ محصورة، وهذا العلم من أطرف وأندر العلوم وهو يدل على تمكن فقهاء العربية من أزمة نواصيها والجهود الضخمة العظيمة التي بذلوها في خدمة هذه اللغة؛ في باب المستعمل والمهمل منها والمضطرد والشائع والنادر والشاذ .
وقواعد هذا العلم  الجليل تتميز  بالاستقصائية والاستغراق؛ حيث إنها تخرج بقواعد كلية مضطردة تأتي على نوعين اثنين:

النوع الأول: القواعد المضطردة في كل أفراد جنسها من دون استثناء؛ وذلك مثل قول ابن سيده: ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة، الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات.

النوع الثاني:
القواعد المنطبقة على أفراد جنسها مع استثناءات محصورة، وهي الأكثر من بين قواعد هذا العلم، وربما هي المقصودة أساسا من التصنيف فيه إذا تخيلنا أن الغرض منه تغطية تلك المساحات والدوائر التي لم تنجح القواعد في إدراجها تحت عمومياتها المضطردة، مثال ذلك قولهم: ليس في كلام العرب (فاعل) وجمعه (فُعَلاء): إلا في ثلاثة ألفاظ: شاعر وشعراء، وعاقل وعقلاء، وصالح وصلحاء، والقياس أن يكون (فُعَلاء) جمع (فَعِيل)؛ نحو ظُرفاء جمع ظَرِيف، وعُلماء جمع عليم.

واللافت للانتباه أن قواعد وكليات هذا العلم الجليل متنوعة المباحث متعددة الفروع متشتت المعارف؛ فهي تشمل قواعد نحوية صِرفة، وقواعد صَرفية خالصة، وحيثيات لغوية تتعلق بالقواعد الكلية للنطق العربي وعلم الأصوات؛ كقولهم: إن الانتقال والخروج من كسر إلى ضم مُستثقل؛ ولهذا ليس في كلام العرب شيء على وزن “فِعُل”، ومنها قواعد تتعلق بالدخيل والوافد إلى العربية من اللغات الأخرى، كقولهم: لا تجتمع السين والذال في كلمة عربية، وأما كلمة: أستاذ، وساذج ونحوهما فمعرب من الفارسية، وبعضها يتعلق بتصحيح الأوهام والأخطاء الشائعة في اللغة؛ كقول أبي عمْرو بن العَلاء: ليس في كلام العرب: أتانا سحَراً، ولكن يقولون: أتانا بسَحَر، وأتانا أعلى السَّحَرين.

ولعل أول مصنِّف في هذا العلم  الجليل وواضع للبناته الأولى هو العلامة ابن خالويه؛ أبو عبد الله الحسين بن أحمد (المتوفى سنة 370 هـ) الذي ألف فيه مصنفا لطيفا لا يزال هو المرجع الأخصب والأوحد في هذا العلم رغم مضي  أكثر من ألف عام على تصنيفه، وكل المراجع في هذا العلم – على ندرتها – عالة على هذا الكتاب ما بين استدراك عليه وانتقاد وتذييل له وتتميم ونقل منه … الخ .
وقد أثنى على هذا العلم السيوطي فقال: “هذا نوع مهم ينبغي الاعتناء به، فبه تعرف نوادر اللغة وشواردها، ولا يقوم به إلا مضطلع بالفن واسع الاطلاع، كثير النظر والمراجعة، وقد ألف ابن خالويه كتابا حافلا، في ثلاثة مجلدات ضخمات، سماه: كتاب ليس، موضوعه: ليس في اللغة كذا إلا كذا، وقد طالعته قديما وانتقيت منه فوائد، وليس هو بحاضر عندي الآن – يعني وقت تأليفه كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها – وأنا أذكر إن شاء الله في هذا النوع، ما يقضي فيه الناظر العجب، وآت فيه ببدائع وغرائب، إذا وقع عليها الحافظ المطلع، يقول: هذا منتهى الأرب”.

ويمكننا أن نعتبر ابن خالويه بهذا الكتاب الجليل قد أسس فرعا جديدا من فروع المعرفة واخترع حقلا جديدا من حقول العلم بالشواذ والنوادر ربما لم يسبق إليه، ولا حام طائر فكر مؤلِّف قبله عليه؛ وهو ذلك العلم الذي يضع ويهتم بحصر القواعد المضطردة لما لم يضطّرد في اللغة، ويلحق بالاستدراك ما أهمله المقعدون الأوائل من فطاحلة علماء العربية ورواد التقعيد البنائي لمفردات الفصحى .
ورغم كل ما نبهنا عليه ونوهنا به من المكانة الجليلة لهذا العلم والتأليف فيه فإنه لم يسلم من الانتقاد؛ فقد رآه بعض النقاد هروبا إلى الأمام وبحثا سلبيا في اللغة؛ قالوا: وذلك أن العلماء حين أدهشتهم هذه اللغة بأبنيتها المتكاثرة وعجزوا أن يحصوا صيغ الأسماء والأفعال لعلهم يحصرون القوالب التي يبني الفصحاء على أمثالها ألفاظهم، لما لم يتيسر لأحد منهم – مهما يكن قد أكثر – أن يستوعب هاتيك القوالب، فإذا هم يستعيضون عن هذا البحث الإيجابي العسير ببحث سلبي يسير؛ فمن لم يحصر الأشباه والنظائر عن طريق الأبنية التي جاءت على لسان العرب اضطلع بحصر الألفاظ التي خرجت عن هذا اللسان المصطفى، وظن بعد ذلك أنه بلغ بسعيه ذروة المنتهى!

ولا أدري سر هذا الهجوم العنيف الشرس على هذا المنحى من التأليف وكأني ألحظ أن من انتقدوه ربما لم يستوعبوه ومن ثم فإنهم لا يقدرونه حق قدره، ولولا ذلك لما قالوا إن البحث فيه يسير؛ فلعمري إن البحث فيه والخروج بقواعد كلية لمباحثه لهو أصعب بأضعاف من البحث في قوالب الألفاظ العربية وأوزان الأفعال والأسماء المضطردة، لأنه يتطلب البحث فيما اضطرد وفيما شذ عن هذا المضطرد، هذا إضافة إلى ما يشتمل عليه هذا العلم الجليل من نوادر اللغة وشواردها، وملحها ونكاتها، والمعلومات الإحصائية الدقيقة التي يقدمها, وما يستفاد منه أيضا من استقراء قواعد أغلبية متعلقة بالأبنية والجموع من حيث كثرة الورود أو قلته، ويظل هذا العلم دوحة من نوادر علوم العربية شاهدا على حضارة لسانية أصلها ثابت وفرعها في السماء، تتسع في الاشتقاق مع ثبوت في المباني وتتفرع علومها وتتوسع مباحثها وتتنوع لكنها تشترك جميعا في تأدية غرض واحد وهو ضبط المفردة العربية وإحاطتها بسياج متين من القواعد والقوانين يصون حماها ويذود عن حياضها ويميز الدخيل والأصيل من مفرداتها .
 

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!