من أسباب تسهيل المصائب

من أسباب تسهيل المصائب

من أسباب تسهيل المصائب ومن اقتفى أثره واتبع هداه ثم أما بعد تكلمنا في مقال سابق عن بعض أسباب تسهيل المصائب وتخفيف الشدائد ونكمل هنا ما بدأناه فنذكر بقية هذه الأسباب ومنها أن يتصور انجلاء الشدائد وانكشاف الهموم وأنها تقدر بأوقات لا تنصرم قبلها ولا تستديم بعدها فلا تقصر بجزع ولا تطول بصبر وأن كل يوم يمر بها..

من أسباب تسهيل المصائب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع هداه، ثم أما بعد:
تكلمنا في مقال سابق عن بعض أسباب تسهيل المصائب وتخفيف الشدائد ونكمل هنا ما بدأناه فنذكر بقية هذه الأسباب، وَمِنْهَا: أَنْ يَتَصَوَّرَ انْجِلَاءَ الشَّدَائِدِ وَانْكِشَافَ الْهُمُومِ، وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِأَوْقَاتٍ لَا تَنْصَرِمُ قَبْلَهَا، وَلَا تَسْتَدِيمُ بَعْدَهَا، فَلَا تَقْصُرُ بِجَزَعٍ وَلَا تَطُولُ بِصَبْرٍ، وَأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَمُرُّ بِهَا يَذْهَبُ مِنْهَا بِشَطْرٍ وَيَأْخُذُ مِنْهَا بِنَصِيبٍ، حَتَّى تَنْجَلِيَ وَهُوَ عَنْهَا غَافِلٌ.
وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ رَجُلًا ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ زَمَانٍ، فَقَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ بِهِ: قُلْ لَهُ كُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي مِنْ نِعَمِهِ يَمْضِي مِنْ بُؤْسِي مِثْلُهُ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ وَالْحُكْمُ لِلَّهِ تَعَالَى. فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
لَوْ أَنَّ مَا أَنْتُمُو فِيهِ يَدُومُ لَكُمْ … ظَنَنْتُ مَا أَنَا فِيهِ دَائِمًا أَبَدَا
لَكِنَّنِي عَالِمٌ أَنِّي وَأَنَّكُمْ … سَنَسْتَجْدِي خِلَافَ الْحَالَتَيْنِ غَدَا

وَأَنْشَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَبَّك لَيْسَ تُحْصَى … أَيَادِيهِ الْحَدِيثَةُ وَالْقَدِيمَهْ
تَسَلَّ عَنْ الْهُمُومِ فَلَيْسَ شَيْءٌ … يَقُومُ وَلَا هُمُومُكَ بِالْمُقِيمَهْ
لَعَلَّ اللَّهَ يَنْظُرُ بَعْدَ هَذَا … إلَيْك بِنَظْرَةٍ مِنْهُ رَحِيمَهْ

وَمِنْ أسباب تسهيل المصائب وتخيف الشدائد: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي مَا وُقِيَ مِنْ الرَّزَايَا، وَكُفِيَ مِنْ الْحَوَادِثِ، مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رَزِيَّتِهِ وَأَشَدُّ مِنْ حَادِثَتِهِ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَمْنُوحٌ بِحُسْنِ الدِّفَاعِ.
قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ فِي نَائِبَةٍ كَيْفَ أَصْبَحْت؟ قَالَ: بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ: خَيْرٌ مَنْشُورٌ وَشَرٌّ مَسْتُورٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
لَا تَكْرَهْ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ حَوْلِهِ … إنَّ الْعَوَاقِبَ لَمْ تَزَلْ مُتَبَايِنَهْ
كَمْ نِعْمَةٍ لَا تَسْتَقِلُّ بِشُكْرِهَا … لِلَّهِ فِي طَيِّ الْمَكَارِهِ كَامِنَهْ

وَمِنْهَا: أَنْ يَتَأَسَّى بِذَوِي الْغِيَرِ، وَيَتَسَلَّى بِأُولِي الْعِبَرِ. وَيَعْلَمَ أَنَّهُمْ الْأَكْثَرُونَ عَدَدًا وَالْأَسْرَعُونَ مَدَدًا، فَيَسْتَجِدَّ مِنْ سَلْوَةِ الْأَسَى وَحُسْنِ الْعَزَا مَا يُخَفِّفُ شَجْوَهُ، وَيُقِلُّ هَلَعَهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَلْصِقُوا بِذَوِي الْغِيَرِ تَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ.
وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مَرَاثِي الشُّعَرَاءِ. قَالَ الْبُحْتُرِيُّ:
فَلَا عجبَ لِلْأُسْدِ إنْ ظَفِرَتْ بِهَا … كِلَابُ الْأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِي
فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى … وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلْجِمِ
وَقَالَ أَبُو نوَاسٍ:
الْمَرْءُ بَيْنَ مَصَائِب لَا تَنْقَضِي … حَتَّى يُوَارَى جِسْمُهُ فِي رَمْسِهِ
فَمُؤَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي أَهْلِهِ … وَمُعَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي نَفْسِهِ
وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النِّعَمَ زَائِرَةٌ، وَأَنَّهَا لَا مَحَالَةَ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ السُّرُورَ بِهَا إذَا أَقْبَلَتْ مَشُوبٌ بِالْحَذَرِ مِنْ فِرَاقِهَا إذَا أَدْبَرَتْ، وَأَنَّهَا لَا تُفْرِحُ بِإِقْبَالِهَا فَرَحًا حَتَّى تُعْقِبَ بِفِرَاقِهَا تَرَحًا، فَعَلَى قَدْرِ السُّرُورِ يَكُونُ الْحُزْنُ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْمَفْرُوحُ بِهِ هُوَ الْمَحْزُونُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَنْ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُحِبُّ فَلْيَتَوَقَّعْ غَايَةَ مَا يَكْرَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ نَائِبَةٍ إلَى انْقِضَاءٍ حَسُنَ عَزَاؤُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَيْفَ تَرَى الدُّنْيَا؟ قَالَ: شَغَلَنِي تَوَقُّعُ بَلَائِهَا عَنْ الْفَرَحِ بِرَخَائِهَا. فَأَخَذَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ:
تَزِيدُهُ الْأَيَّامُ إنْ أَقْبَلَتْ … شِدَّةَ خَوْفٍ لِتَصَارِيفِهَا
كَأَنَّهَا فِي حَالِ إسْعَافِهَا … تُسْمِعْهُ وَقْعَ تَخْوِيفِهَا

وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ سُرُورَهُ مَقْرُونٌ بِمُسَاءَةِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ حُزْنُهُ مَقْرُونٌ بِسُرُورِ غَيْرِهِ. إذْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَنْقُلُ مِنْ صَاحِبٍ إلَى صَاحِبٍ، وَتَصِلُ صَاحِبًا بِفِرَاقِ صَاحِبٍ. فَتَكُونُ سُرُورًا لِمَنْ وَصَلَتْهُ وَحُزْنًا لِمَنْ فَارَقَتْهُ. وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ:
مَتَى أَرَتْ الدُّنْيَا نَبَاهَةَ خَامِلٍ … فَلَا تَرْتَقِبْ إلَّا خُمُولَ نَبِيهِ
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي:
بِذَا قَضَتْ الْأَيَّامُ مَا بَيْنَ أَهْلِهَا … مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ:
أَلَا إنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةُ أَيْكَةٍ … إذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ
فَلَا تَفْرَحَنَّ مِنْهَا لِشَيْءٍ تُفِيدُهُ … سَيَذْهَبُ يَوْمًا مِثْلَ مَا أَنْتَ ذَاهِبُ
وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَّا فَجَائِعٌ … وَمَا الْعَيْشُ وَاللَّذَّاتُ إلَّا مَصَائِبُ

وَمِنْهَا: مَا يَعْتَاضُهُ مِنْ الِارْتِيَاضِ بِنَوَائِبِ عَصْرِهِ، وَيَسْتَفِيدُهُ مِنْ الْحُنْكَةِ بِبَلَاءِ دَهْرِهِ، فَيَصْلُبُ عُودُهُ وَيَسْتَقِيمُ عَمُودُهُ، وَيَكْمُلُ بِأَدْنَى شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَيَتَّعِظُ بِحَالَتَيْ عَفْوِهِ وَبَلَائِهِ. حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَعَلَيْهِ خُلَعُ الرِّضَا بَعْدَ النَّكْبَةِ فَلَمَّا مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لِي: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ اسْمَعْ مَا أَقُولُ:
نَوَائِبُ الدَّهْرِ أَدَّبَتْنِي … وَإِنَّمَا يُوعَظُ الْأَدِيبُ
قَدْ ذُقْتُ حُلْوًا وَذُقْتُ مُرًّا … كَذَاك عَيْشُ الْفَتَى ضُرُوبُ
لَمْ يَمْضِ بُؤْسٌ وَلَا نَعِيمٌ … إلَّا وَلِيَ فِيهِمَا نَصِيبُ
كَذَاكَ مَنْ صَاحَبَ اللَّيَالِي … تَغْدُوهُ مِنْ دَرِّهَا الْخُطُوبُ
فَقُلْت: لِمَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ؟ قَالَ: لِي.

وَمِنْهَا: أَنْ يَخْتَبِرَ أُمُورَ زَمَانِهِ، وَيَتَنَبَّهُ عَلَى صَلَاحِ شَأْنِهِ، فَلَا يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ، وَلَا يَطْمَعُ فِي اسْتِوَاءٍ، وَلَا يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا عَلَى حَالَةٍ، أَوْ تَخْلُو مِنْ تَقَلُّبٍ وَاسْتِحَالَةٍ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَخَبرَ أَحْوَالَهَا هَانَ عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا.
وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
إنِّي رَأَيْتُ عَوَاقِبَ الدُّنْيَا … فَتَرَكْتُ مَا أَهْوَى لِمَا أَخْشَى
فَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا وَعَالَمِهَا … فَإِذَا جَمِيعُ أُمُورِهَا تَفْنَى
وَبَلَوْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا فَإِذَا … كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ يَسْعَى
أَسْنَى مَنَازِلِهَا وَأَرْفَعُهَا … فِي الْعِزِّ أَقْرَبُهَا مِنْ الْمَهْوَى
تَعْفُو مَسَاوِيهَا مَحَاسِنَهَا … لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّعْيِ وَالْبُشْرَى
وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى الْقُبُورِ فَمَا … مَيَّزْتُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
أَتُرَاكَ تَدْرِي كَمْ رَأَيْتَ مِنْ الْأَحْيَاءِ … ثُمَّ رَأَيْتَهُمْ مَوْتَى
فَإِذَا ظَفِرَ الْمُصَابُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ تَخَفَّفَتْ عَنْهُ أَحْزَانُهُ، وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ أَشْجَانُهُ، فَصَارَ وَشْيَك السَّلْوَةِ قَلِيلَ الْجَزَعِ حَسَنَ الْعَزَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ حَاذَرَ لَمْ يَهْلَعْ، وَمَنْ رَاقَبَ لَمْ يَجْزَعْ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّعًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
مَا يَكُونُ الْأَمْرُ سَهْلًا كُلُّهُ … إنَّمَا الدُّنْيَا سُرُورٌ وَحُزُونُ
هَوِّنْ الْأَمْرَ تَعِشْ فِي رَاحَةٍ … قَلَّ مَا هَوَّنْتَ إلَّا سَيَهُونُ
تَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي دَارِ الْفَنَا … ضَلَّ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا لَا يَكُونُ

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!