لستُ مشغولاً بالسؤال الذي يشغلكم: متى ستعود الحياة إلى طبيعتها؟
فما يقلقني أني لا أتذكر تلك الطبيعة، وما يفزعني أني لا أعرف طريقاً مختصراً إليها، بل إن أكثر ما أخشاه حين يأتي موعد عودة الحياة إلى طبيعتها، أن أكون قد غادرتُ طبيعتي، وصرتُ “كوالا” من فصيلة الدببة الانطوائية، أنام عشرين ساعة في اليوم، وفي الساعات الأربع أشاهد خمس حلقات متتابعة من مسلسل عربي قديم رديء الألوان، وأكتبُ تعليقاً سياسياً على شأن ليس من شأني، وأردّ من وراء الزجاج السميك تحية جارتي، وهي التحية التي سأعتبرها من جملة النشاط الاجتماعي.
نسيتُ آداب الجلوس على الطاولة الأثيرة في المطعم البحري، والغرض من المنديل الأبيض، وما فائدة الشوكة رغم وجود الملعقة، وفي أيّ يد تكون السكين وفق الاتيكيت الذي تناوبت على تعليمي إياه أكثر من امرأة منذ أن جئت إلى المدن قبل عشرين عاماً، فلاّحاً من الأطراف المنسيّة. نسيتُ آداب الكلام أثناء الطعام، والكلمات الإنجليزية التي ينبغي أن أجاري بها النادل اللامع.. لا أذكر من كلّ هذا سوى أن أقول للداعي “نجاملكم في الأفراح”!
نسيت الطريق السهل إلى المطار. كنتُ كثير السفر، ولي بلاد أحنُّ إليها، ومواعيد حبّ على شواطئ بيروت. أحنُّ أيضاً إلى الليلة القلقة وهدايا إلى نساء اشتريتها بمساعدة نساء، وعودتي في منتصف الطريق لأني نسيتُ أشياء لا تُنسى، منها جواز السفر. أحنُّ إلى الصوت الأنثوي الذي كنت أتأخر عن موعد الطائرة من أجل سماعه، وهو يوجّه لي بحزم أنثوي النداء الأخير. أريد أن أسافر لمرة واحدة فقط، لأتأكد أن سترة النجاة تحت المقعد.
نسيتُ كيف يمكن أن أوقع امرأة في الحبّ، لا أتذكر سوى وصايا شاعر كان يخرج دائماً من الحبّ مطروداً. نسيتُ أصول العناق، والغزل الذي يبدأ من قدح الشاي، وكم إصبعاً ينبغي أن يتخلّف عن أول سلام في الحب. أخشى أنّي حين أصادف أول امرأة بعد الحَجْر، أن أرتكب معها الأخطاء التي نسيتها، ونسيتُ كيف أتفاداها، ومتى ينبغي أن أستعين بـ “نيشته” وسيطاً، وإلى أيّ زاوية أذهب بوجهي حين أريد أن أبدو غاضباً، دون أن تكذّبني الشفاه.
كل ما نسيته لم يُنسني أني كنتُ ذات يوم كائناً اجتماعياً، ثرثاراً إلى حدّ أني دخلت دورة قبل الحَجْر لتعلم الصمت، وكان لي صداقات بنيتها على الخير المطلق، فقد كنتُ أتجنب النظارات السوداء التي قد تجعل التفكير سلبياً، ولا ترى في الناس إلاّ المناطق المعتمة. كنتُ سعيداً رغم أني لم أسكن في شقة عليا في مدينة أفلاطون. كنتُ أحبُّ السهر، وطبيبات الأسنان، والمشي في السوق الشعبيّ في ساعات الذروة، وكنت مبهراً بالكذب.
.. فأرجوكم حين يأتي موعد عودة الحياة إلى طبيعتها، ألاّ تنسوني وراءكم، سأحتاج حتماً إلى أبناء الحلال منكم لكي يوقظوني بعد عشرين ساعة من النوم. لا تركنوا على دقّ الجرس بشكل متقطع أو طرق الباب بأيدٍ مهذبة، فقد أخبرتكم أني تحوّلت من كائن اجتماعي ثرثار إلى “كوالا” كسول يمكنه النوم من دون الحبوب الزرقاء. أرجوكم، فإن ذهبتم من دوني، لن توقظني الشمس، ولا غروبها.. ولا حتى انهيار الكهف.