نُدامى الحنين الورديّ

فوقَ السَّلالمِ الفضِّيّة لأُسطورةٍ تكبرُ تهبطينَ كالأميرةِ من خلف الغُيوم يستقبلُكِ الأهلونَ بالأغاني العراقيّة المُفضَّلة يفرشونَ لكِ القُلوبَ بالبُيوت الطِّينيّة والأبواب الخشبيّة الواطئة تاركينَ السّاعاتِ تذبلُ وحيدةً بما يُنهَبُ من الهواء المالح الشَّريد وما يُجرَفُ عن جسَد سلميَة من دُموعٍ وأشعار. … كنتُ صغيراً مثل يرقة استيقظتُ فجأةً في أرض الفُقراء قالوا لي: لم تتوقَّفْ […]

نُدامى الحنين الورديّ

[wpcc-script type=”ddf9630ab472c7c5d7d5aa00-text/javascript”]

فوقَ السَّلالمِ الفضِّيّة
لأُسطورةٍ تكبرُ
تهبطينَ كالأميرةِ من خلف الغُيوم
يستقبلُكِ الأهلونَ بالأغاني العراقيّة المُفضَّلة
يفرشونَ لكِ القُلوبَ بالبُيوت الطِّينيّة والأبواب الخشبيّة الواطئة
تاركينَ السّاعاتِ تذبلُ وحيدةً
بما يُنهَبُ من الهواء المالح الشَّريد
وما يُجرَفُ عن جسَد سلميَة
من دُموعٍ وأشعار.

كنتُ صغيراً مثل يرقة
استيقظتُ فجأةً في أرض الفُقراء
قالوا لي: لم تتوقَّفْ «السُّيولُ يوماً
عنِ تهديد سلميَة»
كنتُ «ألهو بأقراطِها الفاطميّة»
وأُصغي للجباه الكادحة وهيَ تُمجِّدُ
«أوَّل أسير فكَّ قُيودَهُ بأسنانهِ»
كانوا يروونَ الأساطيرَ عنِ البادية المُحيطة
حيثُ ثارَ المُتنبّي يوماً
وحيثُ ما زالَ الأحفادُ يُجدِّدونَ العُهودَ
في أمسيَةٍ لمُظفَّر النّوّاب
وعتابا لمحمَّد صادق حديد
مُشيرينَ للزُّوّارِ أنْ رتِّلوا
عبارة طه حسين:
هذهِ «أمُّ القاهرة».

كنتُ صغيراً مثل دمعة فرَح
تدحرجتُ كثيراً في شارع حماه
حيثُ بُيوت أخوالي وخالاتي
كانتِ الأبواب مفتوحة طوالَ الوقت
والسَّهرات مُندلِعةٌ أمامَ العتباتِ حتّى الفجر
كنتُ أتناثر نشوةً
كأوراقِ لعبٍ ملعونة
من الحارة الغربيّة
إلى الحارة الشَّرقيّة
آكُلُ التُّوتَ والعنَبَ عن أمِّهم
وأزورُ في طريقَ العودة
مسجدَ الإمام إسماعيل.

كانَ الأُفُقُ يأكلُ مُباشَرَةً من لحمِ ذاتي
وكانت هُناكَ مقبرة
هيَ الآنَ حديقةُ الماغوط
بينَ قُبورها نُصِبَتِ الأراجيحُ في كُلِّ عيد
وعلى جنباتِها زوَّدَ الباعةُ الجوّالونَ
أرشيفَ الوجودِ بالمامونيّة وأعوادِ التُّفّاح بالسُّكَّر الأحمر
كُنّا عشرينَ ثلاثينَ طفلاً
أولادُ وبناتُ عُمومةٍ وخؤولة
لا نعرفُ متى يبدأُ النَّهارُ
كي نغزوَ كالنَّحلِ
مَسارِبَ الخيال.

في سلميَة
يمشي الضَّوءُ مُغمضَ العينين
الرُّوحُ عجلات الحدس
وملائكةُ الأكتاف إشارةٌ إلى الجنون
أستيقظُ مُكلَّلاً برائحة البنّ في شارع زينب
وأسترخي في السّاحة العامّة
بينَ قمعيْن من بوظة سلّورة الحمويّة
على طريق الحصى أخترِعُ الحُلول
آخذُ كعكَ العيد على درّاجة ابن خالتي
كي يُخبَزَ في الفرن كقُبلات الجدّات
أُعرِّجُ على المدرسة الزِّراعيّة
كي أمدَّ اللَّهوَ بعُصارةٍ من جنسِهِ
أو أزورُ مُدرَّجات النّادي الرِّياضيّ
كي أُشارِكَ الهواء في تدريباتِهِ
ثُمَّ أعودُ بأقراص اللَّحم بعجين ناضجةً
يُصفِّفُها الأهلُ كالمعروضات في واجهة المحال
بينَ صُحون اللَّبن السَّلمونيّ
وخُرافة أنَّ السَّعادة لا تنتهي.

في سلميَة
الأقفال تفكُّ نفسَها برُعاة الحدود الممحوَّة
سليمان عوّاد
ينقشُ في فمِ الشَّغف قصيدةً لرامبو
وإسماعيل عامود
يُسوِّرُ فراشَ الموت بدواوينِهِ
علي الجندي يُقامِرُ بغُيومِ المال السَّمين
مُقابل ليتر ويسكي واحد
والماغوط يُؤمِّمُ كلمات سامي الجندي الأخيرة
توجساً من مدافئ الأحزاب
البعثيّون والسُّوريّون القوميّون
يُروِّجونَ الفُكاهات عن بعضهِم بعضاً
والشُّيوعيّون ينصبونَ الفخاخ
لأذناب الإقطاع المُندسِّينَ في الحُقول
وحدهُم الشعراء
يمتصّونَ خُلاصة الرَّحيق
يُديرونَ ظُهورَهُم المُحدودبة للفناء
ويطوونَ الأرضَ بحثاً
عن ممالكِهِم الضّائعة.

في سلميَة
الكُنوزُ بلسمٌ غير مرئيّ
جفَّتِ الأقنيةُ القديمة
وظلَّتِ المآقي مفتوحةً كماء السَّبيل
رحلَتِ المواسِمُ
وبقيتِ السّليقة في دستها الكونيّ العظيم
نفد العزاء
ولمْ تُرفَعْ بُيوتُ الشَّعر أو يرحلِ المُعزُّون
رُفوفُ الكُتُبِ
جسرُ سلمونيٍّ هجرَهُ الوعدُ إلى كوكبٍ أزرق
والدَّرّاجاتُ النّاريّة
تَوازُنُ الآلهةِ على حبالِ بهلواناتٍ لا يعرفونَ التَّردُّدَ.

خُذوني أيُّها النُّدامى
في التَّفاصيل الحصريّة
في ملمح الانعطاف والولادة
في خُصوصيّة الظَّهيرة
وفي الألغام
حينَ تنفجِرُ بالأنغام
خُذوني في سكينة الغروب
في عزلة العالَم تختطُّ مَداراً آخَرَ
في نسماتٍ تُهدهدُ فلسفةَ الأشجار
ومَشاعِرَ تعجَزُ عن الشَّرح
خُذوني كي أُروِّجَ للزَّمن العسليّ
في منقارِ وردة
للمصقولِ من التفاتاتٍ
والمُؤبَّدِ من عصيانٍ
أنا ربُّ الوفاء
إنْ كانَ القسَمُ بشراعٍ
لنْ أمَلَّ الخوضَ
في جُغرافيا المَجاز
ولنْ أتوقَّفَ عنِ النِّداء:
يا مشروعَ حبَقٍ بينَ نجمتيْن
علِّمْ سُكَّانَ لُغتي التَّمرُّدَ الأشقر.

خُذوني يا مأوى البَّحّار
على حافّةِ الصَّحراء
رأيتكُم البارحة
أسرع من عدِّ خرزات السُّبحة في منام
كنتُم تقرعونَ الكُؤوسَ في جبلِ عين الزَّرقة
فتهتزُّ حجارة قلعة شميميس الآيلة للسُّقوط
وتفيضُ قناةُ العاشق حتّى أفاميا
بالغُزلان العائدة من العصر العبّاسيّ.

رأيتكُم البارحة
الرَّبيعُ القصيرُ زيَّنَ قهقهاتكُم
فناديتكُم:
يا نُدامى الحنين الورديّ
يا أهلَ المُستحيل في روحي
من زجَّ خُطُواتي
في الغرامِ الشَّرِه الطّازج
من أدارَ عجلات الغياب
دائِماً إلى الوراء
هُناكَ حيثُ أُودِعُ مشاعري
في قفف خيزرانيّة
وأُطوِّفُ في الأصقاع
كأنِّي جهازُ عروسٍ مُرسَلٍ
على ظَهْرِ باص (هوب هوب)
في الثَّمانينيّات.


طوِّقيني يا سلميَةُ
بالقمحِ الآتي خَلْقاً جديداً
أطلقيني حصاناً حصاناً
حتّى تنعسَ ربَّةُ الشِّعر في صدري
في جميع الأقفاص
أنا الجناحُ الطَّموحُ المُقاتل
ومن دون تقيّة أو داعي دُعاة
سيأتي البنّاؤونَ الجُدُد
يعبرونَ النّار والموتَ العريضَ بحساسيّة قُبَّرة
أنتِ مِراني على الغَرابة والعُذوبة
وعيناكِ في سِيرتي
اللُّغزُ الذي يُعيدُ القارئَ باستمرار
إلى الصَّفحات الأُولى
بعدَئذٍ قد تنجو المُصافَحات.

٭ شاعر وناقد سوريّ

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!