«بَرّة في الشارع»: حياة العامل المصري بين تعسف السُلطة وفساد الشرطة

القاهرة ــ «القدس العربي»:كانت سياسة إعادة هيكلة القطاع العام، والمعروفة بـ»الخصخصة» التي سارعت في انتهاجها الدولة قبل 25 كانون الثاني/يناير 2011، وتواترت نتائجها الوخيمة ولم تزل حتى الآن على مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر، هذه السياسة التي أصبحت تمثل تحالف رأس المال والجهات الأمنية في مواجهة العمال والموظفين. وبانتقال هذه الأماكن ــ المصانع خاصة ــ إلى يد رجال الأعمال، أصبح العامل تحت رحمتهم، وأصبحت عبارة «برّة في الشارع» هي مصير أغلبيتهم، لتتجاوز دلالتها وتصبح بالفعل واقع الحال الذي يعيشونه. هذه العبارة هي التي جاءت عنواناً للفيلم الوثائقي، الذي قام بإخراجه كل من ياسمينة متولي وفيليب رزق. وذلك من خلال تجربة فنية جادة ومُبتكرة إلى حدٍ كبير، حيث قام بعض العمال بالفعل بتمثيل أدوارهم في الحقيقة، مع بعض التطوير في استعراض الأحداث، وتداخل ما يوحي بالحقيقي مع الخيالي. جاء العرض الجماهيري للفيلم من خلال عروض الأسابيع الخاصة، التي تقيمها سينما «زاوية» في القاهرة.

Share your love

«بَرّة في الشارع»: حياة العامل المصري بين تعسف السُلطة وفساد الشرطة

[wpcc-script type=”3fdc02a440dba964ef7e080e-text/javascript”]

القاهرة ــ «القدس العربي»:كانت سياسة إعادة هيكلة القطاع العام، والمعروفة بـ»الخصخصة» التي سارعت في انتهاجها الدولة قبل 25 كانون الثاني/يناير 2011، وتواترت نتائجها الوخيمة ولم تزل حتى الآن على مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر، هذه السياسة التي أصبحت تمثل تحالف رأس المال والجهات الأمنية في مواجهة العمال والموظفين. وبانتقال هذه الأماكن ــ المصانع خاصة ــ إلى يد رجال الأعمال، أصبح العامل تحت رحمتهم، وأصبحت عبارة «برّة في الشارع» هي مصير أغلبيتهم، لتتجاوز دلالتها وتصبح بالفعل واقع الحال الذي يعيشونه. هذه العبارة هي التي جاءت عنواناً للفيلم الوثائقي، الذي قام بإخراجه كل من ياسمينة متولي وفيليب رزق. وذلك من خلال تجربة فنية جادة ومُبتكرة إلى حدٍ كبير، حيث قام بعض العمال بالفعل بتمثيل أدوارهم في الحقيقة، مع بعض التطوير في استعراض الأحداث، وتداخل ما يوحي بالحقيقي مع الخيالي. جاء العرض الجماهيري للفيلم من خلال عروض الأسابيع الخاصة، التي تقيمها سينما «زاوية» في القاهرة.
الحكاية
بعض العمال في أحد المصانع، من أعمار مختلفة يقومون بتجسيد مأساتهم مع صاحب العمل، وكيفية انتقال المصنع إليه، وما آل إليه حالهم، من توقيع الجزاءات، واللجوء إلى الشرطة عندما يحاول البعض منهم المُطالبة بحقوقه، وقد امتنع عن صرف رواتبهم في ميعادها، إضافة إلى التلاعب بهم والامتناع عن صرف حقهم في الأرباح، وعدم التكفل أو المُشاركة في علاج المريض منهم. وعند مواجهته يستدعي الشرطة، التي تقوم بحبسهم، حتى يعودوا إلى العمل صاغرين. لكن الأمر يتطور، ويصبح لا مفر إلا بالإضراب، وفي النهاية يتركون المصنع، ويصبح خالياً إلا من صاحبه، ثم بعد ذلك يستولون عليه ويقومون بإدارته بأنفسهم، والنهاية خيالية بالطبع، لأن المكان في حقيقته أصبح خرباً، لا صوت فيه إلا صوت العصافير، وقد ابتنت أعشاشها في كل مكان فيه، فهو في الأخير أصبح مكاناً مهجوراً، مثالاً وبديلاً عن مكان أكبر يمثل الدولة بأكملها.
المكان كذكرى
يبدأ الفيلم في صورة غير واضحة إلى حدٍ كبير ومشوشة في استعراض أحد المصانع التي توقفت عن العمل. المكان مهجور تماماً، والحركة بطيئة، وصوت رجل يحكي ما كان في حسرة، وفي لغة وكلمات توحي بكبر سنه، أنه كان هنا في الصباح أحدهم يمر ويُلقي التحية على باقي الزملاء، وهنا آخر يستقبل يوم عمل جديدا، الكلمات تأتي مُتحسرة على ما انتهى ولم يعد إلا في الذاكرة. ليصبح هذا المكان بعد ذلك عبارة عن عدة خطوط مرسومة بالفرشاة في أسطح إحدى البنايات، ليتم تعريف حدودها من قِبل بعض الأشخاص ــ عمال في السابق ويمثلون الآن ما حدث ــ لتصبح هنا حجرة المدير أكبر الحجرات في المكان، وهنا البوابة، وخط آخر يمثل مكان الآلات، وهكذا يتم بناء المكان الخيالي الآن، ليُعاود المُشاركون إعادة تمثيل الأحداث، بداية من صاحب المصنع الجديد وقد تحوّل إلى أحد مصانع القطاع الخاص، وحتى اضرابات العمال والزج بهم في السجن وعودتهم مرّة أخرى للاستيلاء على المكان وإدارته بأنفسهم، وهذا الجزء الأخير أو الحلم لم يحدث في الواقع، فالواقع نشاهده في البداية، وقد تحول المكان إلى فضاء مهجور.
الحدث وإعادة إنتاجه
مجموعة من العمال يتم تدريبهم على التمثيل، ليقوموا بتقديم لقطات من حياتهم، سواء في الطريق أو مكان العمل، وهو ما يكشف عن طبيعة هذه الحياة، وكيفية التحايل على قسوتها. الصراع هنا يبدو من خلال الشرطة وصاحب العمل الجديد، الذي أهدر كافة حقوقهم، وعند مواجهته يستعين بالشرطة لإنقاذه. مصير العمال هو قسم البوليس في النهاية، حيث الحبس والإهانة وفقدان الكرامة. المشهد الأول يبدأ في القبض على أحد العمال في الصباح وهو ذاهب إلى المصنع، ويتم أخذه إلى قسم البوليس، ويظل هناك دون أي تهمة من التاسعة صباحاً وحتى بعد منتصف الليل، ذلك لأنه لم يعط أحد رجال الأمن نقوداً حتى يسمح له بالعودة إلى بيته، ولا يتركه إلا بعد صفعه في النهاية!
من ناحية أخرى يتم تمثيل الأدوار المتبادلة بين الممثلين/العمال، فالعامل يصبح ضابطاً أو أميناً للشرطة، وتارة صاحب المصنع نفسه، والباقون يمثلون أدوارهم الحقيقية في الحياة، وبأسلوب يقترب من الارتجال أكثر منه سيناريو وحوارا دقيقا ومُحددا، وهو ما تناسب تماماً مع طبيعة هؤلاء، وقد احتفظ بقدر كبير من التلقائية والمرونة في التعبير. إضافة إلى استعراض عمليات التدريب ــ تدريبات التمثيل ــ التي يقوم بها العمال، كذلك كيفية إعدادهم بأنفسهم مكان العرض الخيالي/المصنع، فوق سطح إحدى البنايات، وهي طريقة موظفة جيداً لكسر حالة الإيهام المعهودة.

ما كان وما يمكن أن يكون
دارت الأحداث حول وقائع، مثل بيع المصنع وتشريد العمال وحبس المعارضين، وهي الأجزاء الحقيقية، ولكن يلجأ كل من المخرجين إلى حل خيالي مأمول، وهو الاستيلاء على المصنع، وحراسته من السرقة وإعادة تشغيله ــ فكرة الوصول إلى المصنع والحوار حول أخذ حقوقهم ببيع الآلات، والتوافق حول نفي هذه الفكرة، فتصبح عملية تشغيله هي الأهم ــ لقد أصبحوا هُم السلطة التشاركية التي تدير العمل، السلطة هنا تنبع منهم، والمسؤولية هم فقط الذين يتحملونها. الأمر هنا أشبه بحلم الثورة، وهو ما يُذكّر بما حدث في ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، حين حكم خلالها الثوار، أو تحكموا في مصيرهم بمعنى أدق.
فعل المسرحة
المشاهد بالكامل يتم تمثيلها فوق أسطح إحدى العمارات في وسط المدينة، وتتعدد الأماكن ويتم الإيحاء بها من خلال طبيعة الأحداث، وبالتالي تعتمد على المجاز والتجريد أكثر من التفسير، الإيحاء بالمكان هنا يستكمله المُشاهِد وفق مخزونه البصري المعهود، ما بين شارع أو مكتب أو ساحة تصلح للإضراب. هذا التجريد أيضاً امتد إلى الصوت، حيث يقوم بعض الممثلين بخلق إيقاع يُشبه إيقاع الآلات في المصنع، سواء بالصفير أو الدق الإيقاعي، لنتخيل أربعة من الممثلين وبحركات مدروسة يعبرون عن طريقة عمل الآلة. كذلك نجد المشاهد الحوارية، سواء بين العمال، أو بينهم وبين صاحب العمل، ولا يأتي المونولوج إلا من خلال صاحب العمل، وقد تركه العمال بمفرده، في تضامن مع زملائهم المقبوض عليهم بإيعاز منه، حتى يتناسوا إضرابهم، ويمتنعوا تماماً عن محاولة المطالبة بحقوقهم.
التساؤل هنا يدور حول التقنية في تنفيذ العمل، لماذا لم يصبح العمل مسرحياً، وهو مناسب تماماً لهذا الشكل الفني الذي تم اختياره لعرض مثل هذه الحكاية؟ العرض ينتمي لآليات العرض المسرحي في معظمه، واستخدام تقنيات السينما أو الفيديو في بعض اللقطات ــ خاصة اللقطات الافتتاحية لاستعراض المصنع المهجور ــ وهي تقنية أصبحت مُعتادة في العروض المسرحية، كعرض لقطات مُصوّرة تتخلل العرض المسرحي. من ناحية أخرى ــ وهو أمر يُحسب لصانعي العمل ــ أن طريقة الأداء التمثيلي، من حيث الارتجال المحكوم في إطار الحكاية، والحوارات المُعبّرة عن المواقف التي يتم تناولها، والمنولوج الوحيد لصاحب المصنع واندهاشه بعد ترك العمال له، في المأزق الذي يُعانيه الآن «هبقى مدير على مين دلوقتي!» كلها تميل إلى المسرحة أكثر من كونها مشاهد سينمائية.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!