رحيل إدوار الخراط… هكذا صعد «ميخائيل»

القاهرة ـ «القدس العربي»: «لا أومن بالفكرة التي تقول بأن هناك شيئاً يجب فعله أو أشياء يجب عدم فعلها. في الفن المعايير مختلفة، ويجب ترك المسألة لحرية الفنان أو الأديب أو الكاتب، حتى يستطيع أن يبدع ما يتفق مع ميوله الشخصية، ومع احتياجات المجتمع.

رحيل إدوار الخراط… هكذا صعد «ميخائيل»

[wpcc-script type=”193463c9abb961ee803cbafa-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: «لا أومن بالفكرة التي تقول بأن هناك شيئاً يجب فعله أو أشياء يجب عدم فعلها. في الفن المعايير مختلفة، ويجب ترك المسألة لحرية الفنان أو الأديب أو الكاتب، حتى يستطيع أن يبدع ما يتفق مع ميوله الشخصية، ومع احتياجات المجتمع.
فالمطلوب من الفنان والمبدع أن يكون سابقاً بخطوة على السائد والمألوف أو الموجود، وإلا فلن تكون لإبداعاته أي قيمة. قيمة الفنان تكمن في أن يكون في الطليعة باستمرار، أن يكون مبشراً بشىء أكثر تطوراً، المسألة لا تقتصر على تمجيد ما كان، بل تقدير ما هو كائن واستشراف ما سوف يكون» هذه العبارات بعض من أفكار وآراء حول الكتابة ودور الكاتب، اعتقدها وعاشها الكاتب والروائي والناقد (إدوار الخراط 1926 ــ 2015)، الذي رحل صباح أمس الثلاثاء الأول من ديسمبر/كانون الأول. وما قدّمه الرجل إلى الأدب العربي من خلال تنوع واتساع تجربته الإبداعية يعتبر خطوة كبيرة في مسيرة الكتابة العربية، خطوة مختلفة، لا تسترشد إلا بوعي وروح صاحبها، من دون أي اعتبارات إلا للكتابة وحدها.

المدينة

شكلت مدينة الإسكندرية حالة خاصة ومزمنة في كتابات إدوار الخراط، وتعد الشخصية الأقوى والأبقى ضمن الشخصيات الحكائية التي صاغها. المدينة هنا لم تعد مجرّد ديكور للأحداث، أو مسرح تدور خلاله الحكاية. فدائماً تظل هي الشخصية التي تتواتر وتستقر في وجدان الشخصيات الأخرى، وعلى رأسها «ميخائيل» الشخصية الرئيسة في أغلب أعمال الخراط، الذي يوضح رؤيته لها قائلاً، «لعلني لا أعرف كاتباً آخر في العربية توله بعشق هذا الموقع/الحلم/الواقع كما فعلت. ومهما كان من حفاوة كاتب مثل نجيب محفوظ بأزقة وحواري الجمالية، أو كاتب مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وغيره من كتاب الريف، بقراهم، فقد كانت المدينة/الأرض عندهم، في نهاية الأمر، ديكوراً خلفياً، أو في أحسن الأحوال موضوعاً، أو ساحة للفعل الروائي، لكن الإسكندرية هي نفسها الفعل الروائي، بمعنى ما، هي قوة فاعلة وليست مادة للعمل ولا مكاناً له». «أسير مع وفيق في شارع شريف نتفرج، بعد المدرسة، على الفاترينات الأنيقة في الشارع الأرستقراطي، وهو يتأبط ذراعي ونتحدث بحرية نادرة عما نرى وما نحس وما نحلم وما نأمل. أو نذرع شارع صفية زغلول متجهين إلى محطة الرمل القديمة، والبحر يبعث إلينا هواءه الملحي المنعش عبر أشجار النخيل، ونصل إلى محل العصير المفتوح حديثا بعد سينما الهمبرا، التي هدمت وحلت محلها فرشة مغطاة من قماش الشوادر، وتكومت فيها ركامات من الكتب التي تنذر بعذاب الآخرة وحساب الملكين وظلام القبر وخروج الجن من الأبدان.. وبعد سنين، ستأتي هنا أفواج التتار في أوتوبيساتهم المكيفة، وسيؤون، على نفقة نقاباتهم وجمعياتهم ومؤسساتهم، إلى فنادقهم الجديدة الرثة المتفشية كأورام مهندسة مستقيمة الحيطان. محجبات من سن الخامسة فصاعدا، ملففات في ثياب ضافية، لأن الوجه عورة والجسم عورة والحياة عورة، وملتحون بكروش ناتئة وجلاليب بيضاء قصيرة. وسوف تعتم الزرقة ويغيم صفاء الحلم اللازوردي، وطيور المراكب المجنحة ــ على الرغم ــ مازالت تحلق وتسف على شطوط الروح المختلجة بالغضب والرغبة»/حريق الأخيلة».

ميخائيل

«وكنت في الثامنة عشرة ، ومزعزع الإيمان وشديد الورع ، غارقاً في جسمي وطُهرانياً لم إذهب إلى امرأة قط ، وأعتبر نفسي حر الفكر وسوداويّ المزاج، على الطريقة الرومانتيكية». (ترابها زعفران)
شخصية ميخائيل هي الراوي نفسه والمؤلف، لا يتم تناولها بالطبع إلا مجازاً من خلال يقين روائي، من دون يقين الحياة. ميخائيل الذي لم يزل يرى الأحداث ويفسرها من خلال نضوج تجربته الحياتية، مؤصلاً للبدايات ومحاولاً الوصول إلى منطقة النتائج من وجهة نظر روائية/خيالية. ما بين التاريخ الشخصي والسياسي والاجتماعي لفترات طويلة متقطعة في حياة البطل والمدينة والعالم. هنا يتضح فكر الخراط في كونه لا يعمل من خلال منظور اجتماعي قاصر، أو من خلال أيديولوجية مغلقة، أو وجهة نظر تنتمي لأحد الأجيال، التي ترى نفسها دوماً في المكان الصحيح، وتريد فرض رؤيتها على العالم. رحلة ميخائيل هي حالة مزمنة من البحث والمعرفة، هذه الرؤية التي أتاحت للمؤلف أن يتوسل بتقنيات جديدة في الكتابة الروائية، جديدة على العربية والإنتاج الادبي العربي، ما بين العمليات المُستمرة للنحت اللُغوي، إضافة إلى تداخل دائم للرمزي والأسطوري مع الواقع الذي لا ينفصم عنه، ولا يحيد.

رؤية العالم

سمة التسامح والتجاور مع الثقافات المختلفة تعد أهم سمات إدوار الخراط، ولعل استناده إلى الأسس التراثية التي تمتد إلى مصر القديمة، من حيث الطقوس وما تحمله من أفكار ودلالات، لم يزل يتنفسها المصريون، وإن خبت. ويرى الخراط أن الأصالة الثقافية لا تعني الانتماء العنصري أو العرقي، بل هي تراكم وانصهار للمقومات الموحدة، متجاوزة بذلك الحدود السياسية، لكنها في الوقت نفسه تصدر عن منابع متعددة المرجعيات، في مصر مرجعيات فرعونية قبطية إسلامية ومعاصرة، وفي العراق آشورية، وفي لبنان وسورية وفلسطين فينيقية، في المغرب مرجعية بربرية أمازيغية، في السودان والصومال تراث أفريقيا السوداء، ومن ثَمّ فإنها تسهم في صعود مذهب إنسانيّ جديد وتاريخيّ في الوقت نفسه. ويقول الخراط «التراث العربي ليس قدسياً، فهو ما نملكه ولا يملكنا، سواء كان ينتمي إلى تقاليد فلكلورية، أو عريقة كلاسيكية، سواء كانت محلية أو إنسانية تتجاوز الحدود الإقليمية. لا يقلّ عن ذلك بداهة أن علينا أن ننفض عنه تراب السنين، أن نعيد إحياءه، أن نحياه من جديد، إما عن طريق مناهج منظمة وتقنيّة، أو عن طريق أساليب فنية تعيد تأويله وتفسيره… وما الأصالة إلا ثقافة متحررة تتأتى علّة وجودها في نُشْدان قيم مثل العقلانية والحرية والعدالة.

حلم طويل مستمر

لم تكن كتابة الخراط تهويمات أو تجليات رومانتيكية، لكنها بالأساس أسئلة تتواتر بلا رحمة، حول الإنساني والجمالي، بحثاً عن صيغة عليا تكشف وتدل على ما حدث وما يحدث، ليس من خلال العلاقة القاصرة ما بين السبب والنتيجة، ولكن من خلال الحدس. أحلام أم كوابيس؟ لا يهم، الأهم هو الحالة التي يريد إيصالها، وأن يشترك ويتفاعل معها القارئ، سواء من خلال العامل الأول، المتمثل في اللغة الخاصة للكاتب، التي لا تنتمي إلا له، أو من خلال المقابلة ما بين الذاتية الصرفة، ودلالاتها في وعي القارئ. الأمر أشبه بتشييد عالم كامل، وإن كان صادماً في معظمه … «من أنا إذن؟ ماذا أريد؟ أنا، ومعي طائفة، أو جمهرة من أمثالي. أهذا سؤال يُسأل الآن، بعد أن كاد كل شيء أن ينقضي؟ هل كنت، وما زلت، أريد المحبة؟ أريد الحب؟ أريد الكرامة؟ أريد التبشير والتعجيل بعالم جديد كله عقل وفهم وحدوس صافية، في وسط أمواج الظلام هذه المرتطمة حولي؟ في وسط العنف والقتل والغباء والغيبوبة والانصياع؟ في وسط فقر تزداد عضته شراسة؟ في وسط أطفال يبيتون على الأرصفة، ويسقطون بلا ثمن في بالوعات مفتوحة ويغتصبون وينتهكون ويحشدون في أكوام آدمية متراكمة في غرفة واحدة مع الكبار المتضاجعين، ويرغمون على إدمان المخدرات وترويجها، ويقتلهم أسطواتهم وأسيادهم وستاتهم كيا ونفخا وخبطا بالعدة، وامتهانا، يالسذاجتي» (يقين العطش).
هذه ليست قراءة للرجل وعالمه، من الممكن اعتبارها مجرّد إشارة بسيطة، تتناسب وحدود الصحافة من ناحية، وتوقيت رحيل إدوار الخراط من ناحية أخرى، وهي في الأخير تحية عابرة من أحد القرّاء.
«أعود آخر النهار.. سماء الإسكندرية صافية وسماء روحي ملبدة، لم أسمع أحدا يناديني: إدوااار!. لم يعد هناك وقت للنداء ولا للعودة. لا وقت للنوستالجيا. لا وقت». (حريق الأخيلة).

بيبلوغرافيا
إدوار قلته فلتس يوسف الخراط (1926 ــ 2015). وُلد في محافظة الإسكندرية في 16/3/1926، في عائلة قبطية أصلها من الصعيد. حصل على ليسانس حقوق من جامعة الإسكندرية ــ جامعة فاروق الأول ــ عام 1946 .شارك الخراط في الحركة الوطنية الثورية في الإسكندرية عام 1946، واعتقل في 15/5/1948 في معتقلي «أبو قير» و»الطور».
عمل أثناء الدراسة في مخازن البحرية البريطانية في القباري في الإسكندرية عام 1943، ثم موظفا في البنك الأهلي في الإسكندرية عام 1948، عمل بعدها موظفا في شركة التأمين الأهلية المصرية عام 1955، ثم مترجما في السفارة الرومانية في القاهرة. عمل بعد ذلك في شركة التأمين الأهلية المصرية. وفي 1959 عمل في منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية، ثم في اتحاد الكتاب الأفريقيين الآسيويين حتى عام 1983 واستقال منها بعد وصوله إلى منصب السكرتير العام المساعد في المنظمتين. كما دعي أستاذاً زائراً في كلية سانت أنتوني في أكسفورد خلال فصل الربيع عام 1979، وقُرِّرَتْ روايته «رامة والتنين» في جامعة باريس عامي 1984 ــ 1986.
المؤلفات:
المجموعات القصصية: «الحيطان العالية، ساعات الكبرياء، اختناقات العشق والصباح، ترابها زعفران، أمواج الليالي، إسكندريتي/كولاج قصصي.»
الروايات:
«رامة والتِنِّين، الزمان الآخر، الغجرية ويوسف المخزنجي، تباريح الوقائع والجنون، محطة السكة الحديد، أضلاع الصحراء، يا بنات إسكندرية، يقين العطش، مخلوقات الأشواق الطائرة، حجارة بوبيللو، رقرقة الأحلام الملحية، أبنية متطايرة، حريق الأخيلة، اختراقات الهوى والتهلكة، طريق النسر».
الدراسات النقدية:
«مختارات من القصة القصيرة في السبعينيات، مائيات عدلي رزق الله، أحمد مرسي دراسة ومختارات شعرية، من الصمت إلى التمرد، الحساسية الجديدة/ مقالات، في الظاهرة القصصية، الكتابة عبر النوعية، ما وراء الواقع/مقالات في الظاهرة اللاواقعية».
الترجمات:
«الخطاب المفقود/مسرحية أ.ل كارجيالي، الحرب والسلام/ليو تولستوي، الغجرية والفارس/قصص رومانية، شهر العسل المر/قصص إيطالية، فارالاكو/رواية غينية أميل سيسيه، الشوارع العارية/رواية فاسكو براتوليني»، والعديد من النصوص المسرحية المُترجمة والمعدة للإذاعة.
الجوائز: جائزة الدولة التشجيعية عام 1972، جائزة ملتقى القاهرة الرابع للإبداع الروائي العربي 2008، جائزة النيل 2014.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!