صلاح عناني وأيمن سعداوي في «عودة الروح» و«بر مصر»: لحظات تجسد وعي المصريين الغائب

القاهرة ـ «القدس العربي»: محمد عبد الرحيم تعتبر المعارض التشكيلية من أكثر الأنشطة الفنية في مصر، مقارنة بأنشطة أخرى كعروض المسرح أو السينما، كذلك الندوات وحلقات الشعر وما شابه. لكن المفارقة هي أنه على كثرة هذه المعارض فإن جمهورها محدود، اللهم في حالات قليلة، حيث يتواصل الجمهور مع عمل لفنان ما. السمة الأخرى والغالبة هي موضوعات هذه المعارض، فما بين تهويمات التشكيل، وتجسيد فلسفات ورؤى متفاوتة، وصولاً إلى معارض تشكيلية دعائية عن البيئة والمجتمع المصري، وهي بالطبع باهتة ومتواضعة الموهبة، ولا ترقى حتى إلى كروت البوستال السياحية. لذلك تبدو الأعمال الفنية الجادة حالة من الاحتفاء بشكل أو بآخر. ومن هذه الوجهة يأتي معرض صلاح عناني، المعنون بـ «عودة الروح» ومعرض أيمن سعداوي الذي اختار له عنوان «بر مصر». الحالة مختلفة بالطبع، وما بين الوعي الجمعي والتجسيد الفردي، إلا أنهما يجسدان لحظات حيّة في حياة المصريين. حياة تبدو بعيدة الآن، أو تتباعد، وما التجسيد إلا تذكِرة. ما يجمعها هو البحث عن الروح المفقود الذي نعيشه الآن، ووعي غائب ربما يعود في لحظة أخرى غير متوقعَة.

Share your love

صلاح عناني وأيمن سعداوي في «عودة الروح» و«بر مصر»: لحظات تجسد وعي المصريين الغائب

[wpcc-script type=”cce64ae8ae3ed0a7992cdbd1-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: تعتبر المعارض التشكيلية من أكثر الأنشطة الفنية في مصر، مقارنة بأنشطة أخرى كعروض المسرح أو السينما، كذلك الندوات وحلقات الشعر وما شابه. لكن المفارقة هي أنه على كثرة هذه المعارض فإن جمهورها محدود، اللهم في حالات قليلة، حيث يتواصل الجمهور مع عمل لفنان ما. السمة الأخرى والغالبة هي موضوعات هذه المعارض، فما بين تهويمات التشكيل، وتجسيد فلسفات ورؤى متفاوتة، وصولاً إلى معارض تشكيلية دعائية عن البيئة والمجتمع المصري، وهي بالطبع باهتة ومتواضعة الموهبة، ولا ترقى حتى إلى كروت البوستال السياحية. لذلك تبدو الأعمال الفنية الجادة حالة من الاحتفاء بشكل أو بآخر. ومن هذه الوجهة يأتي معرض صلاح عناني، المعنون بـ «عودة الروح» ومعرض أيمن سعداوي الذي اختار له عنوان «بر مصر». الحالة مختلفة بالطبع، وما بين الوعي الجمعي والتجسيد الفردي، إلا أنهما يجسدان لحظات حيّة في حياة المصريين. حياة تبدو بعيدة الآن، أو تتباعد، وما التجسيد إلا تذكِرة. ما يجمعها هو البحث عن الروح المفقود الذي نعيشه الآن، ووعي غائب ربما يعود في لحظة أخرى غير متوقعَة.

عودة الروح

عنوان معرض الفنان صلاح عناني، والذي أقامه في قاعة المسار للفن المعاصر، يتماس مع رواية توفيق الحكيم الشهيرة. الروح هنا تعود إلى شعب بالكامل، تنطلق من لحظة فارقة حدثت في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير. هنا لابد وأن يكون الروح الجمعي وأن تكون الشخصيات واعية بما أحدثته وما حدث لها، الأمر حالة من تصديق هذا الوعي والوصول إليه. غائب هو الآن، أو خفي، وهو ما توحي به اللوحات، زمن مضى يحاول الفنان استعادته في إصرار كبير. لا تقتصر الأعمال على اللحظة الثورية، لكن عناني يحاول أن يُجسد أشد اللحظات الحيّة في حياة المصريين، لحظات الحب، الاحتفالات الشعبية، الشجار والمعارك، الفتوات، العشاق، الخائبون في مسعاهم، المتربصون للحياة إن جاز التعبير، على العكس من الحالة الآن، فالحياة هي التي تتربص لهم.
لا توجد شخصيات في حالة وحدة مباشرة أو سكون، اللوحات عالم كبير، لقطة سينما، فالجميع في لحظة فعل وحركة، حتى الساكن والمُتأسي منهم، عقله وفكره لا يكف عن الفعل. يبالغ عناني في تعبيرات الشخصية، الملامح والحركة، ويستوحي حال رد الفعل الدائم، حالة صخب لا تهدأ، حتى في لحظات القبلات المسروقة، أو مراقبة ابن الجيران لحبيبته، أو الجالس في ظِل رحمة كأس. وتتنوع الموضوعات ما بين حالة أو مهنة شخص كالموظف والمُنشد الديني أو المطرب وابن البلد. وبالطبع في حالة فعل دائم، أو الأماكن الشهيرة في القاهرة كمحطة مصر، البار، المقهى، وحي الجمالية العريق.
وتعتبر لوحة الثورة المصرية من أجمل لوحات المعرض، رجل الأمن المغطى بسواده، والرصاصة في قلب الشاب المتصدر اللوحة، ويد آخر تلوّح قبل أن تصعد روحه، وهو أسفل عجلات العربات المصفحة، الوجوه الغاضبة والمتكتلة أمام ارتعاب الفئات الضالة.
ولكن .. ما جديد عناني بعد توقفه أكثر من عشر سنوات؟ ما الجديد على مستوى الأسلوب والتقنية؟ هذا هو التساؤل الذي ظل يدور بعد مشاهدة اللوحات والأعمال النحتية القليلة في المعرض.

بَر مصر

«بَر مصر» معرض للنحات أيمن سعداوي، أقامه في قاعة «الزمالك للفن». يحاول سعداوي استعادة لحظات سعيدة في حياة المصريين، دون مبالغة أو مباشرة، أو ادعاء. لحظات طفولة الفعل، رغم ألعاب الطفولة التي تجسدها منحوتاته البرونزية. القرية وبعض من تفاصيل المدينة في حواريها وبيئتها غير المضروبة بوهم التحديث. ألعاب طفولية اختفت، الحَجْلة، ونط الحبل، واللعب بالدراجة، رحلة العاشقين فوق دراجة تكاد أن تطير! كذلك، اللعب في النهر مع الأبقار، وامرأة تحمل جرّتها، أو أخرى ذاهبة إلى الحقل فوق حمارها، الذي بثقلها ينوء.
لقطات في معظمها تكاد تكون منسية من ذاكرة جيل جديد، لكن صاحبها يحاول أن يتمسك بها ويستدعيها ويثبّت زمنها، يخلق لها حالة من الاستمرار الدائم، حالة خلق الوعي.
السمة الأخرى التي حاول سعداوي تجسيدها والتعبير عنها هي حالة الحركة، فلا توجد شخصية يتم استعراضها لذاتها، ولكن من خلال الاحتفاء بما تفعل، حالة لعب دائم ــ الفن لعب ــ نجح الفنان إلى حدٍ كبير في تحقيق ما انتواه. وربما يكون التعبير ذاتيا وقاصرا على شخصيات مفردة، لكن صدقها يتماهى مع حالة أعم وأعمق من مجرّد كونها تعبيراً عن حالات شخصية، وهي معادلة تحققت بشكل كبير.
الفكرة الأخرى التي جسدها سعداوي في بساطة شديدة هي فكرة الاستمرار، سواء في الزمن والعيش في اللحظة ذاتها، كما أسلفنا، أو من خلال الشكل، وهو الأهم في العمل الفني، كإطار الدراجة الفارغ، وكأنه حلقة مغلقة/دائرة، توحي بالاستمرار في الرحلة والحالة، اللعب والحب والحياة.
ورغم المنحوتات البسيطة التركيب في أغلبها، والقاصرة على شخص بعينه في الغالب، إلا أن البيئة المحيطة بالفعل/المكان تبدو في غاية الوضوح، ليكملها ويرسمها وعي المُشاهد. امرأة فوق حمارها، ولنا أن نتخيل طريقها وهي تسير، بجوار النهر، وفي طريق ضيق. كذلك البنت التي تلعب الحجلة، بنات الحارات أو الطرقات ما بين البيوت، ودراجات تسير في طرق ممهدة في سرعة، حالة الحب والبهجة هي ما توحي أن الدراجة سترتفع عن الأرض تأثراً بحال العاشق وحبيته.

حكايات الزمن الفائت

ما يمكن أن نلاحظه في معرض كل من عناني وسعداوي، هو التوسل بحكايات وزمن قديم. بداية من الشخصيات وعالمها، ملابسهم وألوانها وأكسسواراتها، الأماكن، لحظات السعادة ــ المتحققة أكثر في حالة سعداوي ــ أو الصخب والتوتر، كما جسدها عناني. لاذ كل منهما بالماضي كمأمن، وبحثاً عن عالم سعيد رغم بساطته ومشكلاته وأزماته أيضاً. توقف عناني عند لوحة الثورة، وأسقط كل ما بعدها، حتى أن اللحظة الثورية هذه تصبح النغمة الأكثر خفوتاً، رغم صراخها، الأكثر خفوتاً مقارنة بباقي لوحات المعرض. فلا الجمالية كما هي الآن، ولا محطة مصر صارت هكذا. على الجانب الآخر، ورغم تقنية النحت التي توحي أكثر مما تصرّح، إلا أنها كاشفة عن كثير مما حاول أيمن سعداوي أن يتشبث به، إنها الذاكرة .. فلا العشاق فوق دراجات، ولا الفتيات يلعبن الحجلة، ولا صبية الريف على حالهم.
الأمر لا يخص زمناً تم القضاء عليه، سواء بالنسيان أو الهرب منه، بل حالة من الوعي الغائب يتم التوسل باستدعاء تفاصيله، ربما يعود هذا الوعي يوماً ما إلى المصريين. وعياً بتفاصيل حياتهم وحضارتهم، ليست حضارة المعابد والتماثيل، ولكن حضارة السلوك والروح وتقدير الذات عن حق، دون ادعاء فارغ. هذه الروح التي أصبحت بعيدة تماماً عنهم الآن، في ظِل عاصفة البداوة التي تضربهم بقسوة، وفي غفلة منهم، وهم لا يدركون.

 

صلاح عناني وأيمن سعداوي في «عودة الروح» و«بر مصر»: لحظات تجسد وعي المصريين الغائب
Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!