من تقديس النص إلى تأليه الذات: الفكر الديني بين أنسَنة النص ودوغما طقوسه

القاهرة ـ «القدس العربي»: لم تزل محنة الجماعة البشرية من معتنقي الإسلام تعاني من حالة الفصام ما بين النص المقدس/القرآن وطرائق تفعيله التي يقوم بها الفقهاء في تفسير وتأويل النص، وتأبيده بالكامل والقول بأزليته، سواء في العبادات أو المعاملات، من حيث تنوع الآيات، التي ترتبط بزمنها الذي ولّى ولن يعود.

Share your love

من تقديس النص إلى تأليه الذات: الفكر الديني بين أنسَنة النص ودوغما طقوسه

[wpcc-script type=”f07008511017cab30f3ba4d5-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: لم تزل محنة الجماعة البشرية من معتنقي الإسلام تعاني من حالة الفصام ما بين النص المقدس/القرآن وطرائق تفعيله التي يقوم بها الفقهاء في تفسير وتأويل النص، وتأبيده بالكامل والقول بأزليته، سواء في العبادات أو المعاملات، من حيث تنوع الآيات، التي ترتبط بزمنها الذي ولّى ولن يعود.
إلا أن هناك محاولات كاشفة عن علّة هذا التردي، وآثارها على المسلمين، ومدى ارتباط ذلك بسُلطة قاهرة يستخدمها حُكامهم دوماً منذ العصور الأولى للإسلام وحتى الآن، بمباركة ومساعدة فقهاء السُلطة وخدمها. نستعرض بعض أفكار كل من المفكر الراحل محمد أركون 1928 ــ 2010، خاصة في كتابه «التشكيل البشري للإسلام» ـ المركز الثقافي العربي 2013، كذلك الكتاب المعنون بـ«المأزق في الفكر الديني» ـ دار الطليعة ببيروت 2006 لنضال عبد القادر الصالح، إضافة إلى مؤلفات أخرى تناولت موضوع النص الديني وتأويلة لصالح السلطة السياسية، وهو ما يطلق عليه مصطلح «الآداب السلطانية».

النص وتفسيره وواقعه التاريخي

يلفت أركون بداية إلى الفارق ما بين النص وتفسيره، أي بين المقدس والبشري، وقد أصبح التأويل الفقهي يأخذ مصاف المقدس. فلا يستطيع أحد إنكار الواقعة التاريخية للإسلام، بمعنى أنه حدث وقع بمكان وزمن وله شخصياته. من هنا نجد أنه لم يأت من فراغ، بل قام على أنقاض ما يُسمى في أدبيات الإسلام بـ»العصر الجاهلي». وهو في وقته ثورة على ذلك العصر، تفاعل وناقض أفكاره الموصومة بالجاهلية.
فهو إذن تأسس على ذلك العصر، وبنى جديداً من خلاله. فالقطيعة المزعومة بين الجاهلية والإسلام لن تكون في صالح الإسلام، والجهل بمعتقدات وموروثات وسلوكات ذلك العصر، هي في جوهرها جهل بالإسلام. وبذلك يصبح الإيمان كما يُشير أركون إيماناً هشاً، مبنياً على الموروث الفقهي والسائد من الأفكار التي تأسست وفق هذا الموروث، الكامن في المسافة التي تفصل بين الإسلام في حقيقته التاريخية، وبين ما يصدر عن الناس في حديثهم عن الإسلام، وعن مصادره التي بقيت بعيدة عن المسلمين، لأنها حُجِبَت، بحكم ما تراكم عليها من تفسيرات وتأويلات، صارت هي النص، أو هي المعنى الذي يقول حقيقة النص. وبالتالي غض الطرف عن الحقيقة التاريخية، والعمل أو النظر وفق رؤية غيبيّة أكثر منها واقعا معيشيا، كان وتحوّل وأنتج نصاً أصلياً أساسياً هو القرآن. ويؤكد بدوره نضال الصالح هذه الوجهة بالنظر إلى موضوع «الوحي» وتوضيح المفارقة في كونه لوحاً محفوظاً، إضافه إلى بُعده التاريخي، من خلال تواتر الحوادث التي تناولها، ومشكلات جمع القرآن وتعدد المصاحف.
إلا أن أهم نقطة يناقشها المؤلف تكمن في كون النص القرآني «نزل مُنجماً حسب الوقائع الأرضية وبجواب على كلام العباد وأفعالهم، وإنه شديد الصلة بالواقع المخاطب، وإنه ليس نصاً متحجراً ثابتاً، وإنما تتغير قراءته مع تغيّر الوقائع وظروف معيشة العباد»، ثم يتطرق إلى مسألة أخرى أكثر خطورة.. وهي لغة النص البشرية، مؤكداً بذلك على إطار اللغة البشرية للوحي، وعليه فإن «صياغةَ الرسالةِ بشريةٌ وبلغة البشر».

استخدام مفهوم «الله»

«من هو هذا الإله الذي تدعي كل جماعة دينيّة أنه إلهها، وأنها المُمَثلة الوحيدة لهذا الإله والناطقة الرسميّة باسمه؟»، بهذه العبارة يبدأ نضال الصالح البحث حول مفهوم الله، خاصة وأن كل فئة أو جماعة دينية ترى أنها الوحيدة المتحدثة بلسان الله، وتقوم بتنفيذ رغباته. والأمر لا يقتصر على الإسلام، بل تمتد النظرة نفسها لتشمل الديانات، بل والعقائد الاجتماعية الأخرى. ويستشهد بعدة حوارات وأحداث حياتية للتدليل على نسبية المسألة عند نقدها، وإطلاقها من وجهة نظر معتنقيها.. فهناك جندي أمريكي يسأل زميله المُمسِك بالصليب وهو يقاتل الألمان ويدّعي أن الله معه قائلاً «إذا كان الله معنا فمن معهم؟».
ومن وجهة النظر الإسلامية يرى بعض الزعماء الدينيين أن إعصار (كاترينا) عقاب على أعمال الأمريكيين في العراق وفلسطين، والحدث نفسه يصبح غضب من الله لإخراج اليهود من غزة حسب وجهة النظر اليهودية.

الواقع المقدس بديل الواقع الحقيقي

ويُرجع أركون المشكلة إلى أن علّة إخفاق المسلمين تكمن في انحرافهم عن النص الأساس والأصل «القرآن»، ويتجلى هذا الانحراف في الجهل به، وطبيعة السياقات الحياتية والزمنية التي أفرزته. هذا من ناحية، أما الأمر الآخر فيبدو متجسداً في التمسك بالفروع، وما استنه الفقهاء، الذين أصبحوا بمرور الوقت مرجعاً أساسياً غير مقتصر على كل ما هو ديني، بل مع ما يتماس معه الديني، أو تأويله على كونه أمراً دينياً، وبذلك يكون هؤلاء قد قاموا بعملية إحلال لآرائهم محل النص الأساس، وأصبحوا في ما صدر عنهم من أفكار يمثلون الأفكار المثالية العليا للجميع.
ويذكر على الأخص التعقيد المنهجي الذي وضعه الشافعي لفهم النص القرآني، مُذكّراً أن ما قام به الشافعي من دور منهجي تحوّل من بعده إلى طوق حديدي، لا يسمح بالفكر الحر. الشيء نفسه امتد إلى شخصية النبي محمد، فقد أصبح المسلمون لا يستطيعون رؤيته وفق منظور الشخصية التاريخية الواقعية، بل أصبح المقدس يحل محل التاريخي، فأصبح الأسطوري هو الحقيقي في نظر المسلم. ليصل الأمر في النهاية إلى تحول دلالة اللفظ، فلفظة «الله» أصبحت توازيها دلالة في الكثير من الأحيان لفظة «الإسلام»، فكلمة الإسلام قد حلت محل كلمة الله ــ الحديث في إطار اللغة والدلالة ــ في الخطاب الإسلامي المعاصر. وهو أمر خطير يوضح إلى أي مدى أصبح الوعي العام يُغيّب الدلالات الأصلية، ويُحِل محلها تسميات أخرى.

هل يفقه المسلم قرآنه؟

غالبية المسلمين يتعاملون مع القرآن طيلة الوقت، فبخلاف التعامل السلوكي وفق تعاليم القرآن، إلا أننا نختص هنا بقراءة النص القرآني، فالصلوات الخمس ونوافلها، إضافة إلى القراءة الحُرّة للقرآن تعبداً وقربى لله، تعد بدورها من سلوكيات المسلم. ولكن هل يفقه هذا المسلم قرآنه، والمتمثل بداهة في لغته؟ يوضح أركون أن ما ضاعف جهل المسلمين بالإسلام ــ إضافة إلى تغييب النص وصولاً لاستبعاده لصالح التفسيرات ــ هو الجهل بلغة القرآن نفسها، وهي التي لا يمكن التعامل معها بسهولة، ولا يمكن الاقتصار على التعامل المُعجمي معها، كشرح مفردة ما، بل هناك سياق لغوي عام صدرت عنه أساليب النص القرآني، وعلاقة هذه اللغة بلغة أهل الحجاز قبل ظهور الإسلام. فابن عباس على سبيل المثال كان يعتبر فهم القرآن مرتبط بلغة الشعر، وهو المنتمي للعصر المُسمى بالجاهلي. وفي الجامع لأحكام القرآن واقعة تثبت ذلك… «بينما عمر بن الخطاب على المنبر، قال يا أيها الناس: ما قولكم في قوله عز وجل «أو يأخذهم على تخوف». فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هو لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف أي التنقص.
فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها.. «تخوف الرحل منها … كما تخوف عود النبعة السفن». فقال عمر: يا أيها الناس عليكم بديوانكم شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم». (راجع معجم المعاجم. ص 18. أحمد الشرقاوي إقبال. دار الغرب الإسلامي 1993). وهو ما استنكره جملة المفسرون والمراجع الدينية/الفقهاء، لما نظروا إلى الشعر على أنه المدنس في مقابل النص الديني المقدس، ظناً أنهم يسيرون في ركب النص الديني، الذي نفى عن محمد صفة الشاعر. رغم كل هذا فالمسلم يقرأ ويسمع القرآن كيفما اتفق، من دون تدبّر وتفكّر في مستوياته اللغوية المختلفة، من دون الاستعانة بمعارف، ومصادر لغوية، بما في ذلك أسباب النزول، هي من قبيل المداخل التي بدونها ستبقى القراءة مجرد قراءة، لا تفيد في شيء، لأنها لا تؤدي إلى معنى. وترك المسلم بذلك أمره لأئمة وتفسيرات غالباً ما تكون محكومة باعتقادات إيديولوجية، من دون اللجوء إلى مناهج وأدوات علمية تحوز الكثير من الثقة.

نفي الآخر

ومن هذه النظرة القاصرة إلى المطلق، وتأويل مفهوم الذات الإلهية مع مصالح مَن لهم سلطة التأويل، نجد النفي التام للآخر وفق هذا النسق الفكري والعقائدي … فاليهودية تقسم العالم إلى يهود وأغيار، وفق مركزية دينية يبررها النص الديني بقدر تبريره للعنف ضد الآخر، والمسيحيّة تحيي العهد القديم على لسان يشوع التوراتي دعوة إلى الإبادة الجماعية لسكان فلسطين، فيصير الأمر إلهياً يعطي التسويغ الأبدي من أجل إبادة سكان البلاد، والإسلام المدني (نسبة إلى المدينة) يفتح باباً للعنف باسم الله وتحت راية الجهاد، ويعتبر الفقهاء أن الدعوة إلى القتال تنسخ الدعوة إلى السلم (الإسلام المكي). ونتيجة ذلك يرى الكاتب أن «رفض الآخر ليس حكراً على الغلاة والمتشددين من الإسلاميين، إنه جزء من فكر عام يعشّش في خلايا وعي المجتمعات الإسلامية بمختلف طبقاتها، حكاماً ومحكومين». ويلعب الساسة دوماً بمساعدة فقهاء السلطة على هذه الأوتار في العلاقة بين الله وعباده، وهي لعبة العصور الوسطى الكامنة في مدى قدرة السلطة السياسية على توظيف الخطاب الديني من أجل ضمان بقائها والقضاء على معارضيها.

الله والسلطان ومواقف الفقهاء المخزية

يقصد بمصطلح «الآداب السلطانية» نوع من أنواع الفكر السياسي العربي والإسلامي وكتاباته هي نوع من الكتابات السياسية بدأت مع ما أطلق عليه البعض فترة «انقلاب الخلافة إلى الملك»، وما صاحب ذلك من ظواهر سياسية عديدة مستجدة على المجتمع السياسي المسلم والعربي في ذلك الوقت مثل، «الاستبداد». وهي عبارة عن مجموعة من «النصائح» التي كانت تقدم إلى الحاكم- الملك حتى لو نال لقب «خليفة»- من جانب بعض رجال الفكر والمشورة الذين في الكثير من الأوقات يكون هدفهم الأساسي هو الربط «المطلق» بين كل ما هو شرعي وما هو متعلق بالسلطة والسلطان.
وكانت تهدف إلى تقوية السلطة وإطالة أمد الحكم أو «الملك» الحالي من خلال نوع من أنواع السياسة «البراغماتية» أو العملية، خاصة وقد انتهت النبوّة وانقطع الوحي بموت محمد. ومن الملاحظ على الآداب السلطانية أنها كانت توضع إما بناء على مبادرة من المؤلف أو تتم كتابتها بناءً على طلب من السلطانِ أو الحاكم الموجود (راجع.. الآداب السلطانية، تأليف د.عز الدين العلام.
سلسلة عالم المعرفة/الكويت. فبراير/شباط 2006) فهذه النوعية من الكتابة منذ مئات السنين وحتى الآن لا تهتم إلا بكيفية المحافظة على السلطة القائمة واستمرارها، وهو مجال مرتبط بما هو عملي وواقعي، إنه خطاب يواكب سلطة فعلية قائمة، ويتوخى بناء القناعات والمسوّغات السياسية التي تكفل لها ما يرعى دوامها في كل الأحوال، لذلك فهو يهدف إلى تكريس تصوّرات معيّنة للسلطة، وإبراز حتمية القهر كخاصية ضرورية لكل سلطة في التاريخ ولزوم الولاء والطاعة والصبر، التي هي أخلاق العامة المطابقة لإرادة التاريخ ومقتضيات الزمن.

الحاكم الإله

صورة أخرى تؤصلها هذه الكتابات حول طبيعة رأس السلطة، فالحاكم أو الملك هو الحارس الأكبر للدين، بل إنه حافظ الدين ومقيم الحدود ومحصّن الثغور، كما عبر الماوردي، وترمي هذه المُمَاثلة إلى رسم صورة مكبرة للنموذج الإلهي وإسقاطها على الملك، وذلك كما يحفظها الخيال الشعبي ويرعاها، وهي صورة تضيف إلى قداستها المفترضة والمقدرة صوراً لا حصر لها، تحمل مختلف التناقضات، فالملك يجمع عندئذ بين الصفح والعقاب، والعدل والطغيان، والموت والحياة، وكذلك فهو العادل والجبار، إلى غير ذلك من الصور التي تهدف من ورائها إلى إخضاع الرعية وإقناعها بوجوب الطاعة بوصفها قيمة خلقية مثلى على الرعية الامتثال لها، وهذا ما جعل مفهوم الطاعة يشكل المبدأ السياسي الملازم للسلطة في تاريخ الاسلام، كما تشهد على ذلك نصوص الآداب السلطانية، التي تؤكد باستمرار على الإعلاء من شأن الطاعة ولزومها، وذلك من أجل المحافظة على المراتب المجتمعية والقواعد السياسية السلطانية، وهكذا تصبح الطاعة في هذا الخطاب معقل السلامة وتمثل أرفع منازل السعادة وهي الطريقة المثلى والعروة الوثقى، وهي العاصمة من كل فتنة، والأداة المناسبة لاستمرار السلطة حارسة للدين في الدنيا، ومدبرة لشؤون العامة بما يضمن الاستقرار والأمن.
(راجع .. في تشريح الاستبداد ـ قراءة في نظام الآداب السلطانية. لكمال عبد اللطيف ـ دار الطليعة ـ بيروت).

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!