إنَّ هذا لا يعني أنَّ مخاوفهم ليست منطقية؛ إذ يمكن استخدام التكنولوجيا بشكل شائن بلا شك؛ ولكنَّه يمنح البشرية فرصةً للازدهار بشكل لم يسبق له مثيل أيضاً؛ إذ يتيح لنا التواصل الذي توفره التكنولوجيا الالتقاء عند مفترق الطرق هذا وتحديد الخطوة الصحيحة التالية، ونأمل أن يختار الناس الطريق الذي يهديهم إلى الرفاه الشخصي والمهني الحقيقي؛ لأنَّه يمكن لأي شخص أن يسخِّر التكنولوجيا لتتوافق وشغفه.
في الواقع، إنَّ هذا يحدث بالفعل، وثمة العديد من الأمثلة لذلك؛ إذ اكتشفت شركات التسجيلات الموسيقية مغنيين من موقع يوتيوب (YouTube)، ووقعوا معهم عقوداً في نهاية الأمر، وباع الرسامون أعمالهم عبر الأسواق الإلكترونية، كما وصلت كتب المؤلفين الذين ينشرون كتبهم بأنفسهم على موقع “أمازون” (Amazon) إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (New York Times)، والكثير من القصص المشابهة الأخرى.
تشير جميع هذه الأمور إلى قدرة التكنولوجيا على تحويل الهوايات إلى أعمال تجارية مشروعة، والأهم من ذلك أنَّها تشير إلى أنَّه حتى بوجود شيء كبير ومنتشر في كل مكان مثل الإنترنت -مصحوباً بالشعور بأنَّنا نبتعد جميعاً عن بعضنا بعضاً- ما زلنا قادرين على العثور على الروابط والعواطف والسعادة الداخلية.
لا ينبغي أن يتحدث القادة عن آليات بدء الأعمال وتوسيع نطاقها فحسب؛ بل عليهم رؤية ذواتهم الحقيقية بشكل أوضح من خلال استكشاف العلاقات مع العائلة والأصدقاء وزملاء العمل، بالإضافة إلى تقبُّل وعيهم الذاتي ومخاوفهم؛ إذ يقدم ذلك فكرةً أفضل عن كيفية تحقيق التوازن في كل ما يفعلونه.
إذا كنت تتوق إلى فكرة الإقدام إلى العمل والحياة بكل كيانك، فلا تضيِّع وقتك عند مفترق الطرق؛ إذ إنَّ الطريقة لإعادة ابتكار وتصور خبراتك الشخصية والمهنية هي من خلال تبني وصقل ثلاثة سلوكات أساسية:
1. ممارسة المصداقية:
يتمحور هذا السلوك حول العمل بكل روحك وكيانك، والتخلص من أي أمر يحول بينك وبين مصداقيتك؛ ولكن ينبغي أن تعلم أنَّ المصداقية لا تعني أن تكون صادقاً مع نفسك فحسب؛ بل تتطلب وعياً كافياً بذاتك لتفهم كيف يراك الآخرون.
دعنا نوضح الأمر أكثر من خلال مثال عملي: لنفترض أنَّ أحد المديرين استعرض أداء أحد الموظفين وناقشه، ولكنَّه عبَّر عن ذلك بشكل قاسٍ للغاية لدرجة أنَّ الموظف استقال في اليوم التالي، مع أنَّ المدير ظنَّ أنَّه يمارس المصداقية، ولكنَّه لم يكن صادقاً بصورة عقلانية؛ فهو لم يضع آراء الآخرين به في الحسبان؛ لذا، عليك أن تسأل نفسك أولاً فيما إذا كانت ردة فعلك قاسيةً كثيراً، ومن ثم تعدِّل كلامك تبعاً لذلك.
عليك أن تراقب تعابير وجهك، وكيف تتغير عندما ينتابك شعور معين، أو أثناء خوض حديث ما من خلال النظر إلى المرآة؛ إذ لعلَّ تعابيرك تظهر عكس ما تفكر أو تشعر به؛ لذا انتبه كيف تبدو عندما تتكلم، لأنَّه هكذا يراك الناس في نهاية الأمر.
لكلٍّ منا نقاط ضعفه، لكن إن لم نمارس المصداقية من كل جوانبها، فلا يمكننا بناء الثقة، والتي بدونها لن يتقبل الناس النقد البنَّاء أو يحاولوا تحسين أنفسهم، إنَّ الطريقة الوحيدة التي سيقبل بها الموظفون كلامك هي عندما توفي لهم بوعودك بأنَّك ستساندهم وتدعمهم دائماً، مما سيعزز ولاءهم تجاهك بشكل كبير.
وأما إذا كنت تخطط لاستخدام الإنترنت، وتسخيره لتأمين النجاح، فإنَّ المصداقية لها أهمية قصوى هنا، فكِّر مثلاً في النجاح غير المتوقع الذي حققته الأُم المتعافية من الإدمان “تيفاني جينكينز” (Tiffany Jenkins)؛ إذ تخطت قناتها على موقع يوتيوب (YouTube) الربع مليون مشترك، وهذا ليس لأنَّها شخصية مشهورة أو لاعبة أولمبية أو مديرة تنفيذية ينبغي متابعتها؛ بل لأنَّها ببساطة صادقة للغاية، إنَّ جينكينز (Jenkins) صريحة بشأن تعاطي المخدرات في الماضي وأكثر صراحة بشأن حياتها الفوضوية والمضحكة بوصفها أُماً وزوجةً، وبسبب صدقها بشأن كفاحها ونجاحاتها ومخاوفها، ينجذب الناس إليها بشكل طبيعي، كما تقول الكاتبة وعالمة النفس “كاريسا ثاكر” (Karissa Thacker)، “يتبع الناس المصداقية، بل ويبحثون عنها”.
2. إظهار شعور الضعف:
من الجيد أن تشارك بعض معاناتك ونجاحاتك بكل صدق في اجتماعات الموظفين؛ لأنَّ ذلك سيفسح المجال لباقي أعضاء الفريق لأن يكونوا منفتحين أيضاً؛ إذ ينبغي أن يعرفك الآخرون كي تعرف نفسك، وهذا الأمر لا يقتصر على تمتُّع القائد بالمهنية؛ بل عليك أن تتيح المجال لإظهار شخصيتك الحقيقية أيضاً.
يتطلب شعور الضعف تقدير نقاط ضعف الآخرين أيضاً، حتى لو لم يتحدثوا عنها، إليك سراً كبيراً لا يتحدث عنه أي أحد: ربما يحمل كل شخص تتكلم معه على عاتقه عبئاً ثقيلاً؛ لذا ساعِد الناس على تعلم تحديد نقاط ضعفهم وتقبُّلها من خلال تقبُّل نقاط ضعفك.
لسوء الحظ، تسهِّل منصات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي اليوم الاختباء خلف صور الطعام المثالية أو الصور الذاتية التي تخفي ما نحن عليه، مما يزيل أي أمل في إظهار حقيقتنا وضعفنا؛ لذلك من خلال إظهار ضعفك بكل جوانبه، ستتيح للآخرين الفرصة لفعل الشيء نفسه.
إنَّنا نرغب بطبيعتنا في أن يعرفنا ويرانا الآخرون؛ لكن قلةً من القادة يتصرفون كذلك أو يتركون مجالاً للمشاركة، إنَّ التواصل المشترك هو أساس الإدارة الفعالة للصراعات، وتحقيق نتائج أعمال مثمرة في نهاية المطاف.
ناقشت الباحثة الشهيرة برين براون (Brené Brown) قيمة الشعور بالضعف في حديثها الشهير على منصة تيد (Ted)؛ ففي بحثها الذي أجرته، رأى الأشخاص الضعفاء أنَّ هذا الشعور ضروري وجميل، كما ترى براون (Brown) بنفسها أنَّ الضعف هو دليل على أنَّك حي.
وعلى الرغم من أنَّه قد يكون من الصعب المخاطرة دون وجود أي ضمانات، إلا أنَّه يسمح للناس بأن يروك كما أنت، يمنحك الشعور بهذه الطريقة قوةً هائلةً في العمل، ويحسِّن قدرتك على التركيز واتخاذ قرارات حكيمة.
3. ممارسة الوعي، وخاصةً إدراك الفرق بين الاستجابة وردة الفعل:
قد يكون رد فعلك الأولي عندما يتحداك شخص ما هو الدفاع عن نفسك، ولكن من الأفضل أن تدرِّب نفسك على التأني والتوقف قليلاً لتسأل نفسك عن الذي يحفِّزك على إظهار ردة الفعل التي أنت بصدد توجيهها؟ إنَّ هذه الفترة في غاية الأهمية؛ فهي الوقت الذي يسمح لك برؤية ردة فعلك، وتحضير استجابة مدروسة.
لذا، أسأل نفسك: “لماذا أُظهِر ردة فعل جسدية كهذه؟ وهل ما أسمعه صحيح؟” في كثير من الأحيان، قد يكون ما يقوله الناس بقسوة جزءاً من الحقيقة؛ فقد تكون تغذيتهم الراجعة خاطئة على الأغلب، ولكنَّ نفحةً من الصدق يمكن أن تفيدك في نهاية الأمر. لذا، فإنَّ الرد بطريقة لطيفة وهادئة ومدروسة يساعدك على أن تقرر أي خصال يجب عليك الاحتفاظ بها أو تغييرها.
من المؤكد أنَّ التكنولوجيا جعلت الشعور بالحب أكثر صعوبة؛ إذ نُظهِر وجوهنا المفلتَرة على وسائل التواصل الاجتماعي ، والتي تؤثر على إدراك الآخرين، وتتلاعب به، من الصعب ألا تحسد حياة الآخرين “المثالية”، ولكنَّ تلك الصور لا تعكس الحقيقة أبداً؛ فجميعنا نواجه الصعاب والمحن، وحان الوقت الذي نحتاج فيه إلى أن يرى الآخرون حقيقاتنا.
إنَّ عدم القدوم إلى أعمالنا الإبداعية بكامل كياننا يجعل حياتنا الشخصية والعملية أكثر صعوبة، ويسلبنا الاستمتاع بالمناصب التي اخترناها.
الخلاصة:
لا مفر من قدوم المستقبل، ولكن ليس علينا الخوف منه أبداً؛ فإذا تناولنا عملنا بالمصداقية والشعور بالضعف والوعي، فإنَّ المستقبل يحمل لنا إمكانيات لا حدود لها. لدينا جميعاً خيار علينا اتخاذه: إما أن نحيا ونعمل في عزلة وخوف، أو نرضى بما لدينا، ونعيش كما نحن بشخصيتنا الحقيقية، فأي الخيارين ستختار؟
المصدر