الانتقال الديمقراطي.. نجاح أوروبا الشرقية وتعثر الربيع العربي (تحليل)

الانتقال الديمقراطي.. نجاح أوروبا الشرقية وتعثر الربيع العربي (تحليل)

Istanbul

إسطنبول / الأناضول

على غرار دول الربيع العربي، واجهت أوروبا الشرقية انتقالا ديمقراطيا أخذ أشكالا مختلفة اتسم بعضها بالعنف، لكنها مع ذلك حققت استقرارا سياسيا واقتصاديا متفاوتا، لم تتمكن الثورات العربية من تحقيقه إلى الآن.

فمنذ 1988 ومع بداية انهيار الاتحاد السوفيتي، شهدت دول أوروبا الشرقية الخاضعة لحكومات شيوعية شمولية، أزمات اقتصادية خانقة ولّدت احتقانا شعبيا حادا سرعان ما أخذ طابعا سياسيا يسعى لإحداث تغيير جذري في أنظمة الحكم الفاسدة.

لم تكن حكومات أوروبا الشرقية تتوقع حدوث ثورات تهدد أنظمتها الشمولية بتلك السرعة والراديكالية في مطالبها، نظرا للقبضة الأمنية الحديدية التي أدارت بها البلاد.

ولم يكن التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية سهلا، ولا دفعة واحدة، بل تباين من دولة إلى أخرى.

فبينما شهدت بولونيا انتقالا سلميا قاده زعيم نقابي يدعى ليش فاليزا، عبر مظاهرات عارمة ضد الحزب الشيوعي الحاكم، عانت رومانيا وبلغاريا درجات متفاوتة من العنف وصلت إلى حد الحرب الأهلية والانقسام كما هو حال النموذج اليوغسلافي.

وبين الحالتين كان هناك نموذج ثالث، يتمثل في الثورة المخملية التي عرفت بها تشيكوسلوفاكيا، التي أجبر ضغط المعارضة الحزب الحاكم على التنازل عن امتيازاته، لكن تجربتها الديمقراطية انتهت بانقسام بالتراضي بين التشيك والسلوفاك.

ولم تكن الأزمات الاقتصادية وانهيار الحزب الشيوعي السوفيتي، زعيم الأممية الاشتراكية في العالم، وحدهما من سرّعا في سقوط أنظمة أوروبا الشرقية، بل كانت هناك عوامل خارجية أخرى لا تقل أهمية.

أبرزها أن شعوب أوروبا الشرقية كانت تنظر بإعجاب إلى الازدهار الاقتصادي الذي تحققه دول أوروبا الغربية، وانتشار مفهوم حقوق الإنسان واحترام الحريات الفردية، ولعب تطور وسائل الإعلام وعولمتها دورا مهما في تسويق هذه الصورة إلى الضفة الشرقية.

فاجتمعت كل هذه العوامل، إلى جانب دور خفي لعبته الكنيسة ضد “الشيوعية الملحدة”، لإسقاط الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، الواحدة تلو الأخرى مثل أحجار الدومينو.

** دول الربيع العربي

تتشابه أسباب اندلاع الربيع العربي مع ثورات الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية، التي كانت نابعة من أزمات اقتصادية أدت إلى احتقان اجتماعي فجّر ثورات سياسية.

فهناك من يؤرخ للربيع العربي من 1988، عندما اندلعت أحداث 5 أكتوبر/ تشرين الأول بالجزائر، ومظاهرات أخرى بالأردن، أدت إلى إصلاحات جذرية في نظامي الحكم.

فالجزائر تخلت عن نظام الحزب الواحد وفتحت المجال لتأسيس أحزاب معارضة، أما الأردن فأجرى إصلاحات في اتجاه الملكية الدستورية عندما سمح بإجراء انتخابات برلمانية.

ثم جاءت ثورة الياسمين بتونس في ديسمبر/ كانون الأول 2010، التي كانت شرارتها حرق محمد البوعزيزي لنفسه، احتجاجا على مصادرة عربته لبيع الخضار والفواكه، تلتها ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2001 بمصر، التي رفعت شعار “عيش حرية كرامة إنسانية”.

فالمطالب الاجتماعية ثم حقوق الإنسان، كانا أبرز ما نادى بهما المحتجون، قبل أن يرتفع السقف إلى مطالب سياسية ترفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”.

واستفاد الربيع العربي في هذه المرحلة من تطور وسائل الإعلام، وخاصة الهواتف الذكية التي يمكنها نقل الصور والفيديوهات، ناهيك عن البيانات بشكل سريع ولأكبر فئة ممكنة من الناس.

ولعب العامل الخارجي دورا داعما لثورات الربيع العربي سواء أكان ممثلا في المنظمات الدولية غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان، أو الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، التي أيدت في مرحلة ما إسقاط أنظمة كانت تدعم بعضها.

فبعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، خلصت واشنطن في دراسة أجرتها على الشرق الأوسط الكبير (العالم الإسلامي) أن “غياب الديمقراطية” أحد الأسباب التي أدت إلى ظهور التطرف بالمنطقة.

وبذلك تلاقت مصالح الغرب مع مطالب شعوب المنطقة، في مفارقة سرّعت من سقوط أنظمة عتيدة مثل نظام حسني مبارك في مصر.

ولكن ثورات الربيع العربي على غرار الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية، لم تكن على نسق واحد، رغم تميزها بالمفاجأة والسرعة، ومطالب التغيير الجذري التي لا تقبل بإصلاحات جزئية.

فإذا كان الانتقال الديمقراطي في تونس والجزائر سلميا إلى حد ما، فإن الوضع في ليبيا وسوريا واليمن، كان وما زال يتسم بالعنف.

كما أن الانبهار بالنموذج الغربي، شكل موجات هجرة كبيرة سواء من أوروبا الشرقة أو من الدول العربية نحو أوروبا الغربية.

** لماذا نجحت أوروبا الشرقية وأخفق العرب؟

أحد الأسباب الرئيسية التي ساعدت أوروبا الشرقية على التوجه نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي، قبول شعوبها ونخبها السياسية والعسكرية مبدأ تداول الحكم، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع لحسم مسألة تنازع السلطة.

فالانقلابات العسكرية في أوروبا الشرقية صارت نادرة، وحتى الحروب الأهلية مثلما حدث في يوغسلافيا سابقا، انتهت بتدخل دولي حسم الصراع لصالح انقسام الجمهوريات المكونة للاتحاد اليوغسلافي.

اقتصاديا، لعبت أوروبا الغربية دورا في احتضان العديد من بلدان أوروبا الشرقية ضمن الاتحاد الأوروبي، ما ساعد على انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات من الغرب إلى الشرق، واليد العاملة بالعكس.

وكذلك توسيع حلف شمال الأطلسي “الناتو” ليشمل عدة دول من أوروبا الشرقية وفر لها حماية من أي اعتداء خارجي، وساعدها ذلك في التركيز على التنمية بدل مضاعفة ميزانية الدفاع، وقلص دور الجيش في الحياة السياسية.

وساعد قرب أوروبا الشرقية جغرافيا من نظيرتها الغربية في الاندماج الثقافي وتقبل التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، واحترام حرية الرأي والتعبير.

حيث قادت ثوراتها زعامات وأحزاب وحدت المعارضة وجنبتها الانقسام والتناحر فيما بينها، مثل ما يجري في بلدان الربيع العربي من أمواج هادرة من المحتجين الذين لا يجمعهم سوى العداء للنظام القائم.

ناهيك عن أنه ليس في أوروبا الشرقية أنظمة ملكية شمولية أو مقسمة على أسس قبلية أو مذهبية عميقة، رغم أنها ابتليت بانقسامات عرقية ودينية مثلما هو الحال في أوكرانيا والبوسنة والهرسك.

كما أن الوعي الشعبي بضرورة التحول الديمقراطي، وقوة المجتمع المدني والصحافة وأحزاب المعارضة، وفشل الأحزاب الشيوعية في تقديم حلول لأزمات الناس، مهدت لتحقيق هذا الانتقال بأقل التكاليف البشرية والمادية.

وهذه أبرز الأسباب التي دفعت أوروبا الشرقية نحو الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي.

بينما تعاني دول الربيع العربي غياب زعامات تتمتع بالكاريزما وأحزاب قيادية تجمع المعارضة، ما دفع التيارات المشاركة إلى الانشغال في مواجهة بعضها، وأحيانا التحالف مع العسكر للتخلص من التيار الأقوى مثلما حدث في مصر.

أو غرقت في صراعات قبلية مثلما هو الأمر في ليبيا أو مذهبية على غرار سوريا.

كما أن العامل الخارجي لعب دورا سلبيا، فبدل أن يحتضن المجتمع الدولي الربيع العربي، دعّمت أنظمة عربية وأجنبية الثورات المضادة حتى لا تمتد رياح التغيير إليها.

كما أن الدول الغربية التي تحمست للربيع العربي في بدايته، أصبحت متحفظة بشأنه لأنه أتى بمن لا تشتهيه مصالحها، ويشكل خطرا على إسرائيل التي ترعاها.

ولم تتمكن حكومات الربيع العربي من تحقيق الإقلاع الاقتصادي المرجو، لأسباب عديدة، وهو أمر خلف خيبة أمل لشعوبها، استغلته الثورات المضادة لمحاولة تدوير نفسها والعودة مجددا إلى السلطة.

وعلى ضوء تجربة أوروبا الشرقية، فإن دول الربيع العربي بحاجة أن تحتكم إلى صناديق الانتخاب لحسم خلافاتها، وأن يتقبل الخاسر الهزيمة، ويرضى المنتصر بتداول السلطة.

ويحتاج ذلك إلى مجتمع مدني قوي، سواء منظمات حقوقية وصحافة مستقلة وحتى أحزاب قائدة وزعامات جامعة لا مفرقة.

ومن المهم تحييد المؤسسة العسكرية عن الصراعات السياسية، وعدم السماح للقادة العسكريين باستغلال الديمقراطية لإنتاج أنظمة شمولية جديدة، فأوروبا الشرقية لم تشهد انقلابات عسكرية على ديمقراطيتها الناشئة مثلما حدث بمصر ويحدث في ليبيا.

النقطة الأخرى التي لا تقل أهمية، تتمثل في العامل الخارجي، إذ تحتاج حكومات الربيع العربي الناشئة إلى دعم دولي، سواء سياسي أو اقتصادي أو حتى عسكري، لحمايتها من حلف الثورات المضادة المتربص بها.

Source: Aa.com.tr/ar
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!