الحالة الطارئة

دخلت إلى القاعة مبتسمةً وهي تدندنُ بأغنية فيروزية ألحت عليها منذ أفاقت ذلك الصباح، لتسأل زميلاتها المعلمات بفضولٍ ومرح: «من منكن تحفظ كلمات» لملمتُ ذكرى الأمس «التي غنتها فيروز قديماً؟» فتنهدت إحداهن، وضحكت أخرى، في حين انشغلت أخريات بهمسٍ من نوعٍ خاص، لتسألها إحداهن فجأة «يبدو في الجو مشروع حب، إعترفي» فارتفعت الضحكات حولها ليجتاحها […]

الحالة الطارئة

[wpcc-script type=”4531e702f7f40f4b23c1d2e3-text/javascript”]

دخلت إلى القاعة مبتسمةً وهي تدندنُ بأغنية فيروزية ألحت عليها منذ أفاقت ذلك الصباح، لتسأل زميلاتها المعلمات بفضولٍ ومرح: «من منكن تحفظ كلمات» لملمتُ ذكرى الأمس «التي غنتها فيروز قديماً؟» فتنهدت إحداهن، وضحكت أخرى، في حين انشغلت أخريات بهمسٍ من نوعٍ خاص، لتسألها إحداهن فجأة «يبدو في الجو مشروع حب، إعترفي» فارتفعت الضحكات حولها ليجتاحها ارتباكٌ لم تعرف له سبباً، لكنها مضت إلى حصتها وهي تقول لنفسها «لعله حب الحياة ليس إلا».
عبرت الساحة بخفة وهي تتأمل أحواضَ الزهر البهيجة على جوانب الساحة، ثم لتقف عند شجرة الياسمين المتكئة بدلالٍ على سور المدرسة، وتلقي عليها تحية الصباح، كما اعتادت كل يوم متمنية لو كانت تملك الوقت لتنحني، وتلتقط أزهارها المتناثرة، فتصنع لنفسها عقداً كما كانت تفعلُ أيام الطفولة. دخلت غرفة الصف، تطلعت في الوجوه البريئة، فراعها بعض الوجوم على الملامح الصغيرة، قالت: «أنا هنا اليوم لأعطيكم درس الدين بدلَ معلمتكم التي ستغيب بضعة أيام، وعلمتُ منها أن هذه الحصة مخصصة لامتحان في حفظ قصار السور».
زاد الوجوم على وجوههم، فابتسمت لهم كمحاولة لتهدئة اضطرابهم، لكنها لم تفلح، إذ كان القلق سيد الموقف في تلك اللحظة، قاومت دفقة الإشفاق التي اعتصرت قلبها، وبدأت بإجراء الامتحان الذي يقتضي من كل منهم ترديد إحدى قصار السور القرآنية غيباً، بدأ أولهم في القراءة بإتقانٍ وسلاسة إلى أن تلعثم في إحدى الكلمات، نبهته فكرر الخطأ بسبب ارتباكه، حاول الإعادة بصوتٍ متهدج لتفاجأ به ينفجرُ باكياً، اقتربت منه محاولةً تهدئته، لكنه استمر بنحيبٍ طفولي مؤلم، أمسكت بيده الصغيرة، فوجدتها باردة، في حين كان جسدُه يرتجف كعصفورٍ مذعور، فقالت بصوتٍ حاولت جاهدةً أن يخرجَ حازماً ودافئاً في وقتٍ واحد: «لقد أجدت القراءة، وعلامتك ستكون ممتازة، لماذا بكاؤك؟ لستُ غاضبة منك، ما بك؟».
فأجاب وسط دموعه: «لكن الله غاضبٌ مني، وسيعاقبني وسيحرقني بالنار، هذا ما قاله أبي أمس وهو يدرسني، قال إن من يخطئ في قراءة القرآن سيدخل جهنم». ولم تعرف ماذا تقول، إذ راعتها العيون البريئة التي كانت قد امتلأت بالفزع.
فقامت ووقفت بينهم لتقول: ما يجب أن تتأكدوا منه يا أعزائي هو أن الله يحب الأطفالَ كثيراً، بقي أن تحبوه بالمقابل ولا تفعلوا ما يغضبه». ثم وجهت سؤالاً جماعياً حول ما الذي يغضبه من كلٍ منهم، فبدأوا بالمناقشة لتأتي الإجابات طريفةً مضحكةً بريئةً، هنا، أعلنت لهم عن تأجيل الامتحان، لتطلب منهم إخراج علب الألوان ودفاتر الرسم والخروج من الصف، فلبوا الطلب بفرح وحماسة، وساروا وراءها نحو الحديقة، أجلستهم حولها وطلبت من كل منهم اختيار زهرةٍ أو نبتةٍ خضراء ورسمها، مؤكدة لهم ضرورة تأمل التشكيلات وتنوع الألوان فيها لتقول: «سترون بأعينكم الأسباب التي تجعلنا نحب الله».
وفي حين كانت المديرة في جولة تفقدية على الصفوف، لمحت ما يجري في الحديقة، فاقتربت من صاحبتنا لتهمس لها: «ولكنكِ مكلفةٌ بإعطائهم دروس الدين بدل الزميلة، ماذا يجري هنا؟ «فأجابت بسرعة: «هذا درسٌ في الدين أيضاً، أنا أعلمهم التأمل، أريدُ أن يحبوا الله أولاً بدلَ أن تبدأ علاقتهم به بالخوف، ولديّ خطط أخرى سأطبقها في الأيام المقـــــبلة، وبالمناسبة، وفي موضوع الخوف، أود لو أتشرف بصحبتكِ لزيارة أحد أولياء الأمور، فثمة ما يجب أن يسمعه في هذا الصدد» ولم تجب المرأة، بل مضت بملامح لا تحملُ أي تعبير، لتدخل مكتبها بسرعة فتجري مكالمة مع معلمة الدين الأصيلة، وتطلبَ منها المسارعة في قطع إجازتها لأن الأمرَ ملح، والحالة طارئة، ولا تحتملُ أي تأجيل!

٭ كاتبة أردنية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!