“الحشرات”.. غذاء شهي يوشك الإنسان على تناوله

بشر على كوكبنا ما زالوا يعتمدون في غذائهم اليومي على الديدان والحشرات، تجربة لطباخين دانماركيين ينقلها المخرج الدانماركي أندرياس يوهنسن في وثائقي “الحشرات”.

قيس قاسم

 

شُحّ الموارد الغذائية خطر حقيقي يهدد مستقبل البشرية بالمجاعة، ويفرض الواقع اليوم على العالم بأجمعه مهمة البحث عن مصادر جديدة للتغذية غير تلك التي اعتاد الناس العيش عليها منذ آلاف السنين.

واحدة من الحلول المطروحة هي التشجيع على أكل الحشرات والديدان الموجودة على الأرض. الفكرة قد لا تبدو مستساغة للجميع، فبحكم الاعتياد لا يقبل الناس تجريب أكل أشياء ينفرون منها أصلا، ويحول دون اعتمادها كمصدر غذائي لهم معه موروث طويل من عادات الأكل والطبخ.

غير أن تجربة الطباخين الدانماركيين “بن ريد” و”روبرتو فلور” تُجلي جوانب مجهولة عن وجود بشر يعيشون على كوكبنا ما زالوا يعتمدون في غذائهم اليومي على الديدان والحشرات، مما شجّع المخرج الدانماركي “أندرياس يوهانسن” في وثائقي “الحشرات” (Bugs) -الذي أنتج عام 2016- على مرافقتهما ونقل تجربتهما إلى العالم.

 

“مطبخ متعدد الثقافات”.. عندما يشحّ الطعام

أراد المخرج “الغذاء والخوف من شُحّ موارده” عنوانا لعرض رؤيته المستقبلية لمصير كوكبنا، ومناقشة الحلول المطروحة والتحديات التي تواجه سكانها، ومن بينها توفير مصادر غذاء إضافية تُعوّض جزئيا المصادر الناضبة أو التي في طريقها للانقراض قريبا.

وجد صانع الوثائقي في مقترح الطباخين الشابين ومعهما باحث علمي يدعى “جوش إيفانز” أن إضافة الديدان والحشرات إلى قائمة وجباتهم هي فكرة تستحق التوثيق، وذلك بوصفها مكملات لا بدائل عن المتوفر عندنا اليوم من خامات غذائية.

حماس المخرج لنقل التجربة على الشاشة أخذه إلى تخوم عوالم جديدة نكتشف من خلالها جهل شعوب الأرض بثقافات بعضها، وإهمال معارفها الفطرية بتأثير هيمنة الثقافة الغربية التي اعتبرتها متخلفة.

اليوم ومن خلال فيلم “الحشرات” ندرك الحاجة الملحة للعودة إليها ثانية، ففكرة البحث عن بدائل للمصادر الغذائية المقبولة بأخرى مُنفّرة مثل أكل ديدان الأرض والحشرات ليست في حقيقتها ابتكارا غربيا جديدا، ولا توجها استباقيا لدرء المجاعات المحتملة فحسب، بل تحمل في طياتها ميلا للسيطرة ثانية على مصادر الغذاء والطاقة الباقية في العالم، لكن ما هو الثمن الذي ستدفعه البشرية مقابل ذلك الميل الجشع؟

هذا السؤال حمله الوثائقي معه خلال رحلته مع أبطاله الذين فكروا في البداية بالعمل على مشروع بسيط عنوانه “مطبخ متعدد الثقافات”، لكنه مع الوقت تطور ليصبح واحدا من المباحث المهمة في مجال توفير مصادر جديدة مكملة لما عند البشرية من غلات غذائية.

الطباخان يُعدّان وجبات مكوناتها الأساسية دهن حشرات برية وجراد في مرحلة نموه الثالثة

 

أسراب الجراد تقتحم المطبخ الغربي

في مطبخهما كان الطباخان يُعدّان وجبات مكوناتها الأساسية دهن حشرات برية وجراد في مرحلة نموه الثالثة، أي قبل ظهور أجنحته، والنتيجة النهائية لها وجبة جيدة قدماها بأسلوبهما الاحترافي.

وقد اعترف الطباخان بعدها بأنهم حذروا الزبائن قبل أكلها، لأن خاماتها ما زالت غير مرخصة رسميا، لكنهم جربوها بأنفسهم أثناء رحلاتهم حول العالم بحثا عن مصادر جديدة تعزز ما هو موجود في المطبخ الغربي، وتجريبهما قادهما للعمل على مشروع متكامل تشرف عليه منظمة “نورد فود لاب” الدانماركية المستقلة المختصة بالتنوع الثقافي الغذائي، ويتعاون معها خبراء تغذية على رأسهم الطبيب النفسي الهولندي “بول”، أو كما يسمى في حقل التجارب الغذائية “العرّاب القبيح” لعدم تردده في تذوق أغرب الحشرات والديدان وإبداء الرأي بطعمها نيئا أو بعد الطهي.

رحلات الطيران التجارية.. حين تتغلب النمطية على تقنيات التصوير

أعد الطباخان “بن ريد” و”روبرتو فلور” تطبيقيا وجبات طعام لرحلات طيران تجارية، وقد قاما بتصوير محتوياتها بكاميرا متحركة سريعة وبعدسة مقربة أغلب الوقت إلى قلب الصحن توحي للمشاهد بلذة ما طبخوه، لكن الشعور بالنفور لا يزول بسهولة رغم كل جمالية مشاهد إعدادها.

وهذا ما أدركاه جيدا، لأنهما بعد دراسة ميدانية في بقاع كثيرة من العالم توصلا إلى حقيقة أن الإقبال على أي نوع من الطعام يعتمد أساسا على الاستعداد النفسي وقوة الموروث الثقافي، فما هو مقبول عند شعب مكروه عند آخر، فكان لهذا عليهما الانتباه لربط فكرتهما بحاجة البشرية المُلحّة لتغيير عاداتها من خلال فهمها للمعطيات والتحديات التي شخّصتها منظمة الزراعة والتغذية العالمية “فاو”.

فقد حذرت المنظمة من زيادة متوقعة في عدد سكان العالم، واحتمال بلوغ عددهم عام 2050 أكثر من تسعة مليارات، وهي زيادة تتطلب رفع إنتاج الغذاء بما يعادل 70% من حجم ما هو متوفر اليوم، وعليه فإن الديدان ستصبح مصدرا غذائيا في المستقبل.

الطباخ “بِن ريده” مع يرقات سوسة النخيل في منطقة الأمازون في بيرو

 

رحلة إلى أستراليا.. وجبة ديدان من إرث السكان الأصليين

إلى أستراليا ذهب الطباخان ومعهم الباحث العلمي، واكتشفوا هناك بُعدا أنثروبولوجيا (دراسة البشر وسلوك الإنسان) للموضوع، فسكان أستراليا الأصليون ما زالوا حتى الآن يأكلون الديدان المستوطِنة في جذور نوع خاص من الأشجار.

حين جربوها بمساعدة امرأة مُسنة حفرت بنفسها تحت جذورها واستخرجت ديدانا كبيرة الحجم نسبيا، اندهشوا لحلاوة طعمها ووصفوه بأنه يجمع بين طعم الجوز وخليط الصويا والعسل والفلفل الحار. ولطهيها اعتاد الأستراليون طمرها بين رماد النار حتى لا تجفّ وتفقد طعمها.

ما شاهدوه في تلك البلاد عزّز قناعتهم بوجود أطعمة طبيعية غير التي نعرفها كالأسماك واللحوم، ربما هي أطيب منها وأنفع، فقط لو تجرأ المرء وتذوقها كما يتذوقها أهل تلك البلاد.

الحشرات ظلت بالنسبة للكثير من الكينيين دواء توصلوا إلى خلطاته عبر الزمن

 

ديدان كينيا.. علاج المريض ومصدر البروتينات المجاني

في كلية العلوم والتكنولوجيا بكينيا واجه الوثائقي منطقا قويا وفهما لسرّ اهتمام الغرب اليوم بالطعام الأفريقي، وكيف لعبت سياسته الغذائية في إبعاد الناس عنه من خلال إغراق أسواقها لعقود بالأطعمة الجاهزة والمواد الخام المستوردة.

وبعد جولات في أسواقها حيث باعة الحشرات والديدان الجافة يعرضون بضاعتهم، جرى حوار عميق حول “كذبة” التنويع الغذائي التي أشاعها الغرب في القارة، وكان الهدف الأخير منها إخضاع الحقل الزراعي وجعله معتمدا على البذور المُحسنة الرخصية التي تُكبل الفلاح وتجبره على شرائها بكل ما فيها من أضرار للبيئة والإنسان.

أما الحشرات فظّلت بالنسبة للكثير من الكينيين دواء توصلوا إلى خلطاته عبر الزمن، واكتشفوا توفر لحومها على عنصر “الزنك” المساعد كثيرا في تجنب الإصابة بأمراض الإسهال الحادة التي يموت بسببها آلاف الأطفال سنويا، بينما ظلت مصدرا رخيصا بل مجانيا للبروتين.

البروتين تلك الكلمة السحرية التي تمكنت بها شركات صناعة الأغذية من قلب التوازن الغذائي لصالحها، فكلما استثمروا مادة أو محصولا جديدا أشاعوا عنه توفره على كمية كبيرة من البروتين، وحين يُقبل الناس عليه يصبح الأمر بالنسبة إليهم مكسبا.

شركة “كوكا كولا” وصلت مبكرا إلى الديدان، واستغلت مذاقها الطيب في صناعة بعض مشروباتها

 

“كوكا كولا”.. استثمار الرأسمالية في الديدان سرا

الخوف من استغلال نتائج البحث لصالح الشركات التجارية أخذ جزءا لا بأس به من زمن الوثائقي البالغ 76 دقيقة، ودفعه ليعود أدراجه كي يتحقق من ذلك الاحتمال البشع. ففي هولندا زار شركة صغيرة تقوم بتكثير الحشرات -وبشكل خاص الجراد- وبيعه بأسعار مرتفعة، كمية المباع منه يشجعهم للمضي في عملية التكثير، أما مذاقه بعد تجربته على يد الطباخين فلا يمكن مقارنته بالأصلي، حيث غلب عليه طعم الطين، ومع هذا فأرباحه الكثيرة زادت من مخاوف تحويل صناعتهم إلى تجارة لا تحرص على البشرية ولا توفر البروتين الرخيص لها.

وللكشف عن الجانب الربحي أعلن “العرّاب” الهولندي مفاجأة مفادها وصول شركات المشروبات الغازية العملاقة -ومن بينها “كوكا كولا”- مبكرا إلى الديدان، واستغلال مذاقها الجيد في صناعة بعض مشروباتهم، وذلك بإضافة نسبة 10% من طحينها إلى المنتج. إذن فقد وصلت الشركات الرأسمالية الكبيرة قبل الطباخين إلى الحشرات واستخدمتها سرا.

ومن مشاركاتهم في مؤتمرات كُرست لبحث مستقبل الغذاء العالمي تأكد للوثائقي دور الشركات العملاقة في تحويل وجهتها نحو ترسيخ فكرة “البديل” عن ما هو موجود في الأرض من لحوم حيوانية، بعد أن أفسدوها صناعيا وجففت سفنهم أسماك المحيطات والبحار جشعا، مما سيخلق دائرة إنتاج جديدة تنتهي لصالح الرأسمالي وعلى حساب الفقراء في الأرض كالعادة.

شركة “نستله” العملاقة تستخدم في أطعمتها الجديدة الحشرات المأخوذة من أفريقيا كمادة خام

 

“نستله”.. أطعمة بمذاق النوع الأحلى من النمل

يذهب الوثائقي للتأكد من أخبار تسربت عن إنتاج شركة “نستله” العملاقة أطعمة جديدة مادتها الخام الحشرات المأخوذة من أفريقيا، ليجري فيما بعد تصنيعها وتصديرها لبقية العالم.

تأكد الطباخان من صحة المعلومة، فأثناء زيارتهما لأوغندا توثقا من استحواذ شركة “نستله” على النوع الأحلى من النمل، أما السكان المكلفين بجنيه وجمعه فظلوا فقراء لا يحصلون إلا على القليل.

بعد اكتشافهما الاستغلال البشع للمصادر الطبيعية الرخيصة في أفريقيا قررا الذهاب إلى المكسيك، حيث يوجد مشروع مقارب لمشروعهم يعمل المشرفون عليه على تشجيع الناس -وبخاصة الفقراء- على أكل نوع من النمل كان في الماضي من المصادر الأساسية لغذاء سكانها الأوائل.

العجيب في الأمر أن شركات بيع اللحوم الكبرى لا تكتفي هناك بمحاربة المشروع، بل تكلف عصابات لسرقة النمل المفيد لتحرم بالتالي الفقراء من مصدر تزويدهم بالبروتين مجانا.

فريق الفيلم يعرض بعض الحشرات التي تستخدم في المأكولات، بما في ذلك الديدان البيضاء في الدنمارك

 

تسمين الزنابير في اليابان.. جرأة التطرق للمستقبل

يعتني الوثائقي كثيرا بموضوع البدائل وخذلان منطقها، ويدعو إليه من خلال زيارته إلى العديد من البلدان، ومنها اليابان التي طورت مشاريع لتسمين الزنابير لا تكثيرها صناعيا، واستخدامها كخامات طبيعية، مقتدين بفكرة السوشي.

قبل عقود قليلة كانت فكرة أكل السمك نيئا غير مقبولة في العالم وبخاصة في أوروبا، أما اليوم فيُعد من بين أشهر الأكلات، والإقبال عليه متزايد.

وبسبب الخوف من استثمار مشروعهم الإنساني المدفوع برغبات “مطبخية” بحتة إلى مصدر ينتفع منه أصحاب شركات إنتاج المواد الغذائية العملاقة؛ انسحب أحد الطباخين منه، بينما واصل “بن ريد” العمل فيه وقاده إلى تقديم بحث دكتواره قد يتمكن من خلاله من عرض أفكاره والتحري عن جواب شافٍ عن ما إذا كانت المشاريع الطموحة ستأخذ طريقها للتطبيق أم سيُكتب لها الفشل؟

يُحسب للوثائقي الذهاب بجرأة إلى عوالم مستقبلية غير مرئية للجميع، وبذلك يكون توعويا طليعيا. وقد أضفى على الطعام وطريقة إعداده لمسة رفاهية، وذلك على الرغم من أن خاماته الأولية قد تكون مقرفة للبعض، فالناس ليس كلهم يحبون أكل الديدان والحشرات.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!