الشام على أرفف الذاكرة

أتذكّرُ الشامَ الكسيحةَ والذبيحةَ يهربُ الدمعُ الذي خمّرتهُ للشامِ عند فراقها.. وحدي أواسي وحدتي بالذكرياتِ وأشطفُ الساعاتِ بالصور الحميمة تسقطُ الذكرى التي علّقتُها يومًا فيومًا في صوان القلبِ كالورقِ اليبوسِ.. ويكرجُ الدمعُ المكدَّسُ مثلَ رزمات النقودِ أبي يَهُبُّ كنسمةِ الصيف الرخيّةِ، ثمّ يفرشُ عتمتي الملأى فراغًا باللياحِ ويحتسي شايًا كعادتهِ ويخبرني بأنباء المدى الأبديّ: أمسِ […]

الشام على أرفف الذاكرة

[wpcc-script type=”ebf414230a82df50933157c8-text/javascript”]

أتذكّرُ الشامَ الكسيحةَ والذبيحةَ
يهربُ الدمعُ الذي خمّرتهُ
للشامِ عند فراقها..
وحدي أواسي وحدتي بالذكرياتِ
وأشطفُ الساعاتِ بالصور الحميمة
تسقطُ الذكرى التي علّقتُها
يومًا فيومًا في صوان القلبِ
كالورقِ اليبوسِ..
ويكرجُ الدمعُ المكدَّسُ
مثلَ رزمات النقودِ
أبي يَهُبُّ كنسمةِ الصيف الرخيّةِ،
ثمّ يفرشُ عتمتي الملأى فراغًا باللياحِ
ويحتسي شايًا كعادتهِ
ويخبرني بأنباء المدى الأبديّ:
أمسِ لقد سهرتُ
مع الملائكةِ الذين ألفتُ صحبتَهم..
هناكَ من البياض اللانهائيّ الموشّى
بالبياض يفيءُ يا ولدي البياضُ
وكلُّ ما لمستْ يداكَ هناك أبيضُ
لا تنادِ، وفحْ كعيدان البخورِ
إذا أردتَ بأنْ تبوحَ
لأنّ من لبسَ الخلودَ.. سلا الكلامَ
هناك لا أصحو لأغفو مرةً أخرى
ولا أغفو لأصحوَ أو لأحلمَ..
لا أضيعُ الوقتَ بالأحلامِ،
فالأحلامُ تُلمسُ بالأصابع
لم تزلْ أوتارُ صوتكَ يا أبي مخضرّةً
كجراح مَنْ نشرتْ خطاهُ
الضوءَ في أرض الجليلِ
ومن مشى فوق البحيرة..
يا أبي أرجوكَ ساعدني
لأخرجَ من ضباب مشيمتي
درّبْ فؤادكَ أن يطيرَ كغيمةٍ
أو سُسْ رؤاكَ بخبرة الحكماءِ
أو بتخيّل الشعراءِ
ضعْ أفكاركَ الأولى بجمر الشغلِ
كي تغدو كموج البحر صاحبَ حُنكةٍ
لا تفزع الحلمَ الذي أهدى لنفسكَ
ثوبَها المحلومَ، وانتظرِ المخاضَ..
ولا تسمِّ الشيءَ قبل نزوله من بطن أمّهِ
يا أبي هل يسمعُ الأمواتُ
موسيقى الحروب هناك؟
هل ساعي بريد الأرض يطرقُ بابَكمْ؟
لا يوقظُ الأمواتَ يا ولدي سوى أنّاتِ
طفلٍ أفقدتهُ الحربُ إكسيرَ الطفولة…
في دمشقَ أبي هنالك يستريحُ
على جناح حمامةٍ بيضاءَ
تلتحفُ النهارَ، وتَلْقطُ الحَبَّ المبعثرَ
فوق ظلّ الجامع الأمويّ..
قد كانَ المكانُ لنا..
فلا بسطارَ يهرسُنا كثومٍ
أو حواجزَ تشنقُ السكّانَ
بالحقد المحضَّرِ مسبقًا..
هو ملكنا هذا المكانُ،
وملحُنا كي لا تبلّلَنا الكهولةُ
كان يا ما كانَ..
قد كان المكانُ لنا
وإنّ الشام أمُّ أبي وأمّي..
قد بذرتُ طفولتي الأولى هناكَ
وأينعتْ لغتي..
هناكَ شققتُ شرنقتي، وطرتُ
على غيوم الهال، والسمّاق،
والنعناع، والحنّاء، والكمّون،
والطرخون، واليانسون، والكاري،
وعرق السوسِ، والصابون،
والريحان، والبنّ المحمَّص،
والڤانيلا، والبخور..
الزنجبيلِ..
المردكوشِ..
الزعفرانِ..
الزعترِ البرّيّ في أسواقِها؛
قطعِ الجواهر والأساور تستديرُ
على بياضِ الياسمينِ..
بياضِ رقبتِها ومعصمِها
وروحي خوّضتْ في عُريها
قد كنتُ أمشي كالمنوَّم..
كان أنفي مرشدي
وهناكَ في كليّة الأسنان..
في الجوّ المعقَّمِ..
قد تركتُ على مقاعدها
فتاتًا من جمار القلب..
قلبي مولويٌّ دوّختهُ الذكرياتُ
فكمْ من امرأةٍ هناكَ عشقتُها
كانت لها أصواتُ رائحةٍ ممغنِطةٍ
وكم أنثى رواني غشُّ عينيها المراوغتينِ
كم أنثى رواها غشُّ عينيَّ المراوغتينِ
لم أندمْ على حبٍّ أشاعَ الدفءَ
في قلبي، وأقمسَ دون ضوضاءٍ..
نساءُ الشام أوّلُ ما عرفتُ من الأنوثةِ
والأنوثةُ مثلُ وجه اللهِ غامضةٌ..
ولغزٌ لا يُحلُّ..
دمشقُ يا تفّاحةً سقطتْ من الأعلى..
من الفردوسِ..
هل لأميّةٍ ما زال أيّةُ خصلةٍ
في شعركِ المسبيّ؟
قد كانتْ هنا فوق الحجارةِ
في الطريق المرتقي نحو الخلودِ
سنابكٌ كانتْ تسودُ مواليَ الأممِ القديمةِ
تستظلُّ بغيمة المجد الولودِ..
دمشقُ أغنيةٌ، وقافلةٌ
حداها المجدُ غربًا صوبَ قرطبةٍ
لكي تلدَ الحضارةَ في عباءة طارقٍ
ودمشقُ أختُ القدسِ..
توأمُها السياميُّ الفريدُ عراقةً
لا صنوَ للأختين في هذا الفضاءِ
دمشقُ ركوةُ قهوةٍ
طافتْ روائحُها
بجوّ البيت والمقهى..
دمشقُ حكايةٌ عن عاشِقَينِ
تلاقيا سرًّا، وسرًّا أدبرا
ودمشقُ تعطي ثديَها للجائعينَ
دمشقُ آخرُ ما تبقّى
من صهيل الخيل في دمنا..
دمشقُ الآن تطلعُ من مرايا الوقتِ
تسألُ عن شراشفِ عرسِها
عن عدّة المكياجِ..
تفشلُ إذْ تحاولُ أن تعيدَ
بكارةَ الأشياء للأشياءِ..
عاريةً تفتّشُ عنكَ يا بردى
وتبكي مثل إعصارٍ
وتبكي إذْ تَعُدُّ على أصابعها
لياليها وتلعنها، وتلعنُ حظَّها
بردى عشيقُ دمشقَ
خاتمُها المشعُّ..
مسعِّرُ اللذّاتِ فيها..
حبرُها المائيُّ والسريُّ والعلنيُّ
قد كانتْ تبلّلُ نفسَها
عندَ انتصافِ الليلِ
في إيقاع شهوتهِ لتغسلَ شعرَها،
وتلمّعَ الأقمارَ في دمِها،
وتروي نهدَها…
بردى يفيضُ يبوسةً..
لم أعرف الكهلَ الذي يبستْ
مفاصلهُ سوى كهلٍ
يبلّلُ ريقَهُ الملتاحَ وحلٌ،
أو ذبابٌ، أو نفايات..
ونحو القبر كان يجرّهُ
من سالفيهِ الأشيبين الوقتُ
قد كتبوا قصائدَ عن جموحِ
الماء في بلّور جسمكَ
يا إلهَ الماء.. يا بردى
دمشقُ الآن تعرضُ شاشةَ البثّ المباشرِ:
حاكمٌ هو نائبٌ للهِ..
أقبيةٌ لفرمتة العقولِ،
وباعةٌ متجوّلونَ
يروّضون أيائلَ الدنيا الأوابدَ
يحلقون بكلّ ما أوتوا
من الألفاظ أستاهَ الحياةِ
وصبيةٌ متسوّلون على دروب اللهِ
بَسْطاتٌ بحجم القبرِ..
شعبٌ لا يريدُ الموتَ من أجل الرئيسِ
وفي سبيل قماشةٍ/ علمٍ..
صلاحُ الدين فوق سريره الحجريّ
مختنقٌ بأخبار العروبةِ..
سندويشاتُ الفلافل أكثرُ المطلوب
في هذا النهار..
لحىً.. لترويج النفاقِ
شوارعُ الوحل الكثيف مقيمةٌ حتى القيامةِ..
زحمةُ الباصات والسرڤيس باقيةٌ..
جرائدُ دون أسماءٍ تثرثرُ كالبغايا
عن مليشيات الرئيس، وجيشِهِ الغطريفِ
والتلفازُ يعلنُ أنّهم قد طيَّروا
في لمح عينٍ جيشَ إسرائيلَ
في الجولان، والجبل المسنِّ،
وأنّهم مترين في عمق الجليل توغّلوا..
ودمشقُ تعلكُ حزنَها..
تتوسّدُ الدمعَ الطريَّ
لكي تنامَ خفيفةً كالقطنِ
في تابوت فوضاها النسيقةِ
مومسًا علنيّةً أضحتْ
بنصف السعرِ،
أو حتّى بربع السعرِ..
بالمجّانِ..
تبعدُ فخذَها عن فخذِها للعابرين..
ولا أحبّكِ، لا…
أحبّكِ يا دمشقُ
قد انبرتْ قدمي على طرقاتكِ الشمطاءِ
لم يلعقْ حطامي ثغرُكِ
السوّاحُ في ثغر الغريبِ
ولا أحبّكِ، لا…
أحبّكِ يا دمشقُ
فقد شواني البردُ في حاراتكِ الجدباءِ
لم يخطرْ ببالكِ أن تغطّيني
ببطانيّةٍ،
أو خصلةٍ،
أو قبلةٍ..
قلبي ينامُ على صليب الذكرياتِ
أبي يدثّرُ حاضري
بصُداحهِ الجوّابِ في وتر الكمنجةِ:
أركل الماضي..
ولا تُفرطْ بشُربِ الذكرياتْ
٭ شاعر فلسطيني

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!