الغزل النحوي

الغزل النحوي لم يفتأ علماء العربية وفقهاء النحو يحاربونفشوظاهرة اللحن في اللسان العربي فاخترعوا القواعد ووظفوا الوسائل لخدمة هذه اللغة وحفظها من تسرب الاستخدامات الركيكة والأساليب المصطنعة التي تضيعجمال اللغةوصفائها ويحاولون جاهدين إقامة سياج متين منيع من القواعد والقوانين التي تحمي حمى هذا اللسان..

الغزل النحوي

لم يفتأ علماء العربية وفقهاء النحو يحاربون  فشو  ظاهرة اللحن في اللسان العربي فاخترعوا القواعد ووظفوا الوسائل لخدمة هذه اللغة وحفظها من تسرب الاستخدامات الركيكة والأساليب المصطنعة التي تضيع  جمال اللغة  وصفائها ، ويحاولون جاهدين إقامة سياج متين منيع من القواعد والقوانين التي تحمي حمى هذا اللسان وتشيد بنيانه .
وإذا كانت حركة اختراع القواعد النحوية وتدوينها قد بدأت في القرن الأول الهجري فإنها قد أثريت بالبحث والإضافة والتنقيح والزيادة والاستدراك على مدى ألف عام – على الأقل – بلغ فيها البحث النحوي ذروته وخرج بمنتوج ضخم من المؤلفات والموسوعات التي  اتخذت أشكالا ومناهج شتى في عرض مسائل وقضايا علم النحو العربي، إلا أن الذي نود الإشارة إليه من خلال فصول هذا المقال هو أسلوب لطيف طريف درج بعض الشعراء على استخدامه حيث يعمد الشاعر منهم إلى مصطلحات وقضايا هذا العلم الجامدة ويعرضها بأسلوب رقيق في تصوير شاعري غزلي رشيق باستخدام أسلوب التورية .

بطبيعة الحال لا يمكن الادعاء بأن المقصد من هذا الأسلوب تسهيل قواعد العربية أو التشويق في أسلوب عرضها خصوصا وأنها مشهورة بتذمر المتعلمين من صعوبة فهمها واستيعابها لكنه – وبدون شك – يعد مؤشرا قويا لظاهرة تأثير الثقافة النحوية في النمط العام لتفكير الشعراء، كما أنها تعتبر من ناحية أخرى ملمحا من ملامح الإبداع البياني والتصوير الفني الذي يطوع أوابد الأكاديميات والعلوم لخدمة التصوير البياني الشعري لا العكس، هذا إذا استثنينا من هذا التعميم النماذج المتكلفة التي تهدف لاستعراض معلومات أصحابها النحوية أكثر من تركيزها على الجوانب الفنية للصورة الشاعرية .
وبين يدي الآن عدد من النماذج اخترت منها قطعا قصيرة لمُحدثي الشعراء ومتقدميهم تلوح سمات الإبداع المتفجر من جنباتها؛ وكما يقول ابن الوردي:
وماذا يشبهُ النحوَ                 وإنْ ذمُّوهُ أو غضُّوا
وفيهِ (القطعُ) و(الوصلُ)       وفيهِ (الرفعُ) و(الخفضُ)
ويقول أبو الفتح البستي:
أَفدي الغَزالَ الّذي في النَّحوِ كلَّمَني       مُناظِراً فاجتَنَيْتُ الشّهدَ مِن شَفَتِهْ
 فأوردَ الحُججَ المقَبولَ شاهِدُها           مُحَقِّقا لِيريني فضلَ معرِفَتِهْ
ثمَّ اتفَقْنا على رأيٍ رَضيِتُ بهِ          بالرَّفع مِن صِفَتي والنَّصبُ مِن صِفَتِهْ
ويقول آخر:
ونحوية ساءلتها: أعربي لنا ”          حبيبي عليه الحب قد جار واعتدى
فقالت: ” حبيبي” مبتداً في كلامهم     فقاطعتها: ضمّيه إن كـان مبتـدا
وأحيانا تشمل تغريدات شعرائنا المتقدمين هذه مسائل دقيقة من علم النحو كقول الشاعر:
قالوا أحب حبيباً ما تأمله        فكيف حل به للسقم تأثير؟
فقلت: قد يعمل المعنى بقوته    في ظاهر اللفظ رفعاً وهو مستور
فالشاعر هنا يشير إلى أن الفاعل – مثلا – قد يأتي في بعض الجمل مرفوعا بفعل محذوف؛ في مثل ما إذا سألك سائل: من حضر؟ فتقول: خالدٌ؛ والتقدير حضر خالدٌ .

أما أبو الحسين ابن فارس فهو يسخر من التعليلات والحجج النحوية بأسلوب غير مباشر حيث يقول:
  مرَّت بنا هيفاء مقدودةٌ       تركيَّةٌ تُنمى لتركيِّ
ترنو بطرفٍ فاترٍ فاتنٍ          كأنه حُجَّة نحويِّ
وقد تمتد هذه الظاهرة أحيانا إلى التهكم في بعض ظواهر الطبيعة كظاهرة رجع صدى الصوت والتي يفسرها الفيزيائيون بأنها: ارتداد ذبذبات الصوت عقب اصطدامها بسطح صلب في وسط ناقل للصوت ومسافة تسمح بارتداد الصوت، بينما يرى الشاعر أن ” الصدى ” إبان قراءته لعلم النحو تعذر عليه فهمه ولم يتقن منه إلا بابي الحكاية والمخاطب ولذا فهو – مدى الدهر – يرد الصوت على هيئته التي يصله بها؛ يقول ابن الوردي: 
وما يدري الصدى في النحو شيئاً           سوى بابِ الحكايةِ والخطابِ
إذا ناديتَ أينَ مضى صحابي؟             حكاكَ وقالَ: ” أينَ مضى صحابي “
ومن الواضح أن توظيف الأغراض الغزلية هنا يأتي استغلالا لنزعة نفسية تكاد تكون هي القاسم المشترك بين كل بني البشر؛ فالنفس الإنسانية تتحرك مكامنها كل ما عرض ذكر الحب ومرفقاته وإن كان على سبيل السرد والإخبار؛ فما أن يذكر العشق إلا وتشرئب الأعناق وتمتد الرقاب وتصغي الأسماع وتتهيأ القلوب مهما كانت جامدة ربما كان ذلك لأن مجرد الحديث عنه وما يتعلق به فيه أنس للنفوس وطرافه وظرافه:
تذوبُ كذَوْبانِ الرَصَاصِ مفاصلي         إذا ذُكِرَتْ من دارِ ليلى خِيامُها

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!