تائهون في الساحات

استيقظت في ذلك الصباح على صوتٍ يتمطى من ناحية الجهة الشرقية، لم يكن الأمر اعتياديًا على الإطلاق، فالبيت المتواضع والمؤلف من غرفة واحدة، يقبع في آخر القرية على طرفها النائي، تجاوره أشجار الإجاص والكرز، وترتفع على الدرب المؤدية إليه أشجار كينا عتيقة عمرها من عمر أبي طنوس صاحب الدار. الأصوات التي تصله في الغالب هي […]

تائهون في الساحات

[wpcc-script type=”b8a3bb82bd25a7822ee1b7c0-text/javascript”]

استيقظت في ذلك الصباح على صوتٍ يتمطى من ناحية الجهة الشرقية، لم يكن الأمر اعتياديًا على الإطلاق، فالبيت المتواضع والمؤلف من غرفة واحدة، يقبع في آخر القرية على طرفها النائي، تجاوره أشجار الإجاص والكرز، وترتفع على الدرب المؤدية إليه أشجار كينا عتيقة عمرها من عمر أبي طنوس صاحب الدار.
الأصوات التي تصله في الغالب هي سيمفونيات من نسْج الغيم والمطر والريح، أو قُلْ هي “وشوشات الديكة” مع الفجر وصفير البلابل، وقد تتمازج أحيانًا مع ضحكات بعيدة لأطفال يلهون حول بركة الضيعة. أما ذلك الصوت الناشز، فقد كسر هدوء الطبيعة، وملأ الفضاء صخبًا، وأرعب الأطيار، فاحتمت داخل أعشاشها، واختنقت قطرات الندى على شتلات المردكوش والحبق…
تبدلتِ الحياة في القرية، وكأن مسا أصابها. في ذلك اليوم، لم ينطلق الفلاحون لجني محاصيل العدس، تخلوا عنها. تركوا الغلال لخيال الصحراء، بعد أن علقوا عليه أمانيهم وأحلامهم، زرعوه هناك في أرضهم، وأداروا ظهرهم له… هانت عليهم أغمار القمح، بقيت جثثًا في بيادرهم، تركوه وحيدًا وعادوا خائبين.
تكاد لا تسمع سوى الصوت الآتي من الشرق، من جهة الساحة، سمعتُ صراخهم، ولكن، بعد فوات الأوان. وكأن الطبيعة انتفضت على تلك البقعة؛ مزقت رداء السكون، فخسر الجدول المترنح عند أسفل التل رفيقه الأثير، وهجرت رائحة النوم عاشق المعول بعد أن كان يهدده التعب.
في ذلك النهار، لم يكن الفلاحون صفا واحدًا ـ كما في كل موسم ـ ليقتلعوا الأعشاب الضارة من الأثلام، أهملوها، فعربشت، واستحالت حبالًا التفت حول رقابهم، وشدت عليها الخناق. بات من الصعب الآن قطعها والإفلات منها، كلما علا صراخهم، اشتدت الحبال حول أعناقهم.
تناهى إليّ عويل ممزوج بالأسى على بذار هُدر في أرض قحط، وثمة أطفال جوعى يتناتشون صورة القمر على صفحة المياه، أطفال ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا في بقعة مسروقة من هذا الكوكب، تغربوا قبل أن يروا النور، وحُملوا إرث مَن سبقهم. أطفال تائهون في وطنهم، وكبار ضائعون في الساحات تتقاذهم الأحقاد، أضاعوا البوصلة في هذا الزمن الصعب. علا الضجيج، تباروا في إطلاق الشعارات!
في تلك الغرفة، على الطرف النائي من القرية، استيقظتُ على دوي صرخة آتية من قعر الهاوية، لم أستطع أن أحدد إن كان كل ذلك كابوسًا، أو هذا هو الواقع الحقيقي الذي نهرب منه. هل نحن حقا في القعر؟ إذا كان الجواب نعم: كيف تكون القمم؟ بل أين تقع تحديدًا؟ وكيف يكون وقْع الصرخات الصادرة عنها؟
والمفارقة أن ثمة مَن يرى الأمور معكوسة تمامًا، يظن أنه يصرخ من أعلى القمة، من قبة العالم، بينما لا صوت لصراخه ولا صدى له، كما في الأحلام تمامًا، تصرخ، لكن من دون أي فائدة. وها هم، تائهون في الساحات، يصرخون، لكن من دون صوت، ولا صدى…

كاتبة لبنانية

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!