جمال سلطان:كنا نخوض حربا ثقافية

جمال سلطانكنا نخوض حربا ثقافية مع علاقتي الجيدة والممتدة مع جمال سلطان إلا أنه قال لي ضاحكا قبل بدء الحوار أعلم نواياك من إجراء هذا الحوار مشيرا إلى اختلافي الجذري معه في التعاطي مع مختلف قضايا الفكر قلت له مبتسما لا أريد أن نبدأ الحوار باستحضار نوايا مسبقة أنت عملت في الصحافة وتعلم يقينا أنني لن أسألك..

جمال سلطان:كنا نخوض حربا ثقافية

مع علاقتي الجيدة والممتدة مع جمال سلطان إلا أنه قال لي ضاحكاً قبل بدء الحوار: أعلم نواياك من إجراء هذا الحوار، مشيراً إلى اختلافي الجذري معه في التعاطي مع مختلف قضايا الفكر. قلت له مبتسماً: لا أريد أن نبدأ الحوار باستحضار نوايا مسبقة.. أنت عملت في الصحافة وتعلم يقيناً أنني لن أسألك عن آخر كتبك أو عن كيف تقضي برنامجك اليومي. بل سنفتح الملفات السابقة، وسنتحاور عن قضايا الصحوة وموقفك الآن من الآخر، وعن كثير من القضايا المثارة في كتبك. لا يمكن لأي دارس لفكر الصحوة في السعودية والخليج تجاوز اسم جمال سلطان كعلامة بارزة في تشكيل وعي الصحوة بالعالم الخارجي عبر ما أنتجه من مؤلفات ومقالات، بحيث بدت بصماته واضحة في موقف تيار الصحوة من التيارات الفكرية والسياسية في المشهد الثقافي العربي. جمال سلطان كان يمثل لدى شباب الصحوة حالة من “الوعي الاستثنائي بالآخر” الأمر الذي جعل كتبه رائجة بشكل كبير بين قطاعات الشباب، خصوصاً في أوائل وأواسط التسعينات. وكانت ـ أي كتبه ـ من القلائل التي تخوض في الشأن الفكري وتحظى بـ”ختم الجودة” من قِبل قيادات العمل الصحوي في إشارة إلى ملاءمتها لاستهلاك شباب الصحوة وخلوها من “المخالفات” و”الانحرافات”.
أصدر جمال سلطان في الفترة ما بين عامي 1985 و1995 ما يزيد عن الخمسة عشر كتاباً حظيت جميعها ـ تقريباً ـ بالطباعة والرواج وبأعداد كبيرة في المكتبات ودور النشر المحلية في السعودية. وكانت في معظمها تدور في إطارين. مواجهة التيارات الفكرية غير الإسلامية “قومية، ليبرالية، يسارية”. ومواجهة الفكر الإسلامي غير المتفق مع المنظومة الفكرية للتيار الصحوي بسقفه السلفي، وهو ما يعتبره جمال سلطان “متميعا” و”انهزامياً” ويعيش تحت ضغط الانبهار بالتفوق الحضاري الغربي. بل ربما اعتبر بعضه بمثابة “غزو من الداخل” يهدف إلى هدم الإسلام وتفكيكه من داخله ليوائم الفكر التغريبي ولا يكون عثرة في طريقه.
** يلمس المتابع للحراك الفكري للصحوة في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات أنك ساهمت عبر مجموعة من كتبك ـ تزيد عن العشرة ـ في صياغة فكر وموقف الصحوة في الخليج العربي وتحديداً في الداخل السعودي تجاه مجمل “قضايا الفكر” كالعلاقة مع الآخر ونمط التعاطي مع الحضارة الغربية ومنتجاتها والتعامل مع المختلف الإسلامي. وأنك ساهمت في تأزيم هذا الفكر وتكريس حالة من الرفض الحذري للآخر. ثم بعد ذلك وفي مرحلة لاحقة تجاوزت أنت ـ نسبياً ـ هذا الفكر. في الوقت الذي بقيت كتبتك كما هي يقتات عليها شباب الصحوة إلى الآن.. أنت ساهمت في تأزيم وشحن وتستطيح فكر الجماهير، ثم تغيرت دون أن تجري أي مراجعات جادة لما كتبت؟***
ـ في الحقيقة يصعب الحديث عن الفكر والثقافة بشكل مجرد ومنفصل عن الواقع الذي صُنعا فيه. ففي الوقت الذي صدرت فيه هذه الكتب كان هناك واقع يمثل خطورة بالغة على الفكر الإسلامي يتمثل في محاولة تمرير فكر تغريبي في ثياب إسلامية. وهذا أمر كان يدركه الكثيرون ولكنهم ربما لم يكونوا يدركون المنابع الرئيسية لهذا الفكر. فكان ضرورياً التصدي لهذه الموجه بشدة وبقسوة أحياناً حتى تتوقف عملية الابتزاز للفكر الإسلامي التي تمارسها هذه الأصوات. وعندما تغيرت الظروف الاجتماعية والثقافية في هذا الواقع الذي يعمل به هذا النوع من الفكر، كان لزاماً أن تتطور عندك أيضاً الحالة الفكرية وأن تتجاوز هذه المرحلة. وفي الوقت نفسه تبقى هذه الكتب مناسبة لأي واقع يمر بحالة شبيهة بالمرحلة التي صدرت فيها هذه الكتب.. وعلى سبيل المثال فإن كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين تعرضت لهم بالنقد قد حصل لهم تحول ملموس في الأفكار والقناعات، نلمسه بوضوح في كتاباتهم الأخيرة وفي ندواتهم وأحاديثهم مما استلزم تغيّر خطابي تجاههم. لا يعني هذا أن خطابي السابق كان خطأً بل هو واكب الحالة الثقافية والفكرية وطبيعة التحديات السائدة في تلك المرحلة.
** ولكن كتبك في حقيقتها ليست مرتبطة في سياق زمني، بل هي ما زالت تُلتهم وتُطبع وتُقرأ إلى اليوم. وما زالت مضامينها مؤثرة بكل ما تحمله من نزعة معاركية وحدِّة في المواجهة، رغم أن ظروف المرحلة تغيرت بشهادتك.. القارئ لكتبك لا يربطها في مرحلة إنتاجها بقدر ما يراها فاعلة في المشهد الثقافي والسياسي اليوم؟{***
ـ هذا طبيعي لأن الخطر ما زال حاضراً في بعض المجتمعات.. وإن كان قد هُمش وتضاءل حضوره كثيراً. فمثلاً ما كان يكتبه نصر حامد أبو زيد من أن مرجعية الإسلام هي مرجعية بشرية وأن النص القرآني هو نتاج واقع، وثقافة مجتمع محلي، ثم يُسلل آراءه هذه باعتبارها اجتهاداً في الفكر الديني. هذه مسألة في غاية الخطورة. وكآراء محمد أركون التي تريد تطويع الإسلام مع القيم الغربية. وكآراء حسن حنفي الذي يريد أن يحول الوحي وكل القيم الإيمانية إلى قيم مادية محضة. كل هذه الأفكار كانت تمثل درجة عالية من الخطورة في مرحلتها الزمنية. ولكنها هُمشت اليوم ولم يعد لها كبير أثر، لذا فإن وجود بعض الكتابات التي تتعامل بقسوة مع هذه الأفكار وتحذر من هذه الانحرافات أمر مهم، وإن كان حضورها يجب أن يتقلص بعض الشيء لأن الواقع بدأ يتجاوزها.
** وماذا عن محمد عمارة وأحمد كمال أبو المجد هل كانوا يمثلون في رأيك هذا “الخطر”؟***
ـ بالنسبة للدكتورة عمارة فقد حصل تغير كبير في كتاباته وأفكاره وكان لزاماً أن أتجاوز مرحلة النقد الجذري في التعامل معه. لأن القضية في النهاية ليست قضية تصيّد للشخص بقدر ما هو نقد لفكرة. فإذا تجاوزها الكاتب فقد تم المطلوب. وأنا لا أرى من الحكمة التركيز على ضرورة التبرؤ من الآراء والكتب السابقة، لا داعي لمثل هذه القسوة. يكفي أن أفكاره الحديثة تجاوزت أطروحاته السابقة.
** ولكنك لم تجر أي مراجعات لكتبك السابقة لتربطها في سياقها الزمني وتصحح كثيراً من الأفكار التي ربما تجاوزتها المرحلة وتجاوزتها أنت؟***
ـ مسألة أن أجري مراجعات لكتبي السابقة وأحاول تصحيحها فأنا أعتبر ذلك هدراً للوقت. فالمسألة انتهت وما كتبته ليست نصوصاً مقدسة كي تستمر مع الزمن.. يا أخي حتى من تحدثت عنهم في هذه الكتب نسوا هذا الموضوع.
** ولكن شباب الصحوة لم ينسوا. فهم ما زالوا يقرأون كتبك مفصولة عن سياقها الزمني، ومؤلفاتك ما زالت تُطبع وتُتداول وتُلتهم على أنها الآلية المثلى للتعامل مع التيارات الثقافية في العالم اليوم؟***
ـ ربما لأن في مجتمعات هؤلاء الشباب ما زالت توجد حالات من التطرف العلماني تعيد إنتاج الآراء والأفكار التي تجاوزها محمد عمارة وأحمد كمال أبو المجد وسواهما. هناك كثير من الأفكار ما زالت تُطرح وتُلبس لبوساً إسلامياً، وتخرج بكونها رؤية تجديدية للإسلام. وهي في حقيقتها علمانية متطرفة. لذا تبقى هذه الكتب مهمة وفاعلة في تلك المجتمعات.
** تحدثت كثيراً عن رواد النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هذا العصر الذي يعتبره كثير من الباحثين عصر “الوعي بأسئلة النهضة” والذي تسميه أنت “عصر تكريس الانحطاط”. يرى البعض أنك مارست عملية مفرطة في الانتقائية في تعاملك مع نصوص هؤلاء الرواد ـ وأنا أتحدث هنا عن أمثال الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وسواهم ـ ففي الوقت الذي تصنف فيه هؤلاء على أنهم يمثلون حالة الانبهار بالغرب ومحاولة مسايرة وتطويع الدين ليتوافق مع الحضارة الغربية، أنت تُغفل وتتجاوز كثيراً من نصوصهم التي تتحدث عن الحفاظ على الهوية والتفريق بين التطور المادي في المنظومة الغربية وإطارها الروحي. ثم أنت تُغفل فضيلة الأسبقية لهؤلاء في طرح قضايا التقدم والتطور الحضاري وضرورة النهوض في مجتمعات تعيش في قعر التخلف؟***
ـ أنا معك في أن هذا الجيل كان جيلاً متميزاً ولم يكن من النوع النمطي التقليدي، ولكن المهم هنا أن الصدمة الحضارية كانت عنيفة على هؤلاء، وأن القلق استبد بهم بفعل محاولاتهم الدؤوبة في الدمج بين الرغبة في التطور الحضاري وفي نفس الوقت المحافظة على الهوية، وهو ما جعلهم يمرون بحالات اضطراب وتشتت. وأنا عندما نقلت نصوصهم كنت قد نقلتها من كتبهم الأصلية بعد أن قرأتها فوجدت هذا الاضطراب الذي أتحدث عنه بحيث تتناقض كثير من أرائهم وأفكارهم في إطار مدة زمنية محدودة، كما فعل قاسم أمين في كتابيه “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”، حيث صدر الأول عام 1899 وكان يدعو فيه إلى الحجاب وملتزماً بالقيم الشرعية بينما كان كتابه الآخر والذي صدر بعد عام واحد أي عام 1900 دعا فيه إلى التحرر من كل القيم الشرعية واللحاق بركب المرأة الغربية. وكما فعل طه حسين الذي كان يدعو صراحة إلى اللحاق بالغرب بكل ما يتضمنه من قيم روحية واجتماعية، وكان يتحسر في مقال له عندما دخل إلى المسرح في فرنسا ورأى راقصة مبتذلة تسمى سارة بيرنر، فكان يقول متى تصل مصر إلى درجة من الحضارة والتقدم يكون وجود “نابغة!” قبل سارة بيرنر أمراً طبيعياً فيها.
** أنا في سؤالي لم أتطرق لهؤلاء بل تحدثت عن أمثال الأفغاني وعبده والكواكبي؟***
ـ حتى هؤلاء كانوا يعانون من الانكسار في ضميرهم وفي فكرهم، ونلمس ذلك جلياً في بعض نصوصهم. مثل الفتوى “الترنسفالية” وهي منطقة في جنوب القارة الأفريقية عندما أرسلوا يستفتون محمد عبده في أن بعض المسلمين باتوا يلبسون القبعة بدل العمامة المحلية وفي هذا تشبه بالإنجليز وولاء للمحتل، فأجابهم الشيخ أن القبعة قد تقي من الشمس وقد يكون لها فوائد أخرى، وحرف الموضوع عن مضمونه الأصلي.
** وهل تعتبر هذا انكساراً؟***
ـ بالطبع هو يمثل انكساراً. وأنا هنا لا أدخل في إطار التقييم الأخلاقي، ولا نقد ذوات الأشخاص بقدر ما أحاول تحليل أسباب وسياقات هذا النتاج الفكري، وأثر الواقع والأبعاد النفسية التي شكلت هذا النتاج.
**ولكنك تجاوزت كون هؤلاء كانوا أول من استطاع فك التأزم بين العقل والحضارة والتطور المدني وبين الرؤية الإسلامية بعدما كان الفكر التقليدي شديد التخلف وأكبر معيق للتطور؟***
ـ يا أخي البدوي كان يقول قديماً :”البعرة تدل على البعير”. ونحن نرى واقعنا ونعرف جيداً تاريخنا المعاصر. أين هي الحضارة التي أنتجها هذا الفكر. بل نحن نسير من سيئ إلى أسوأ، ومن انهيار إلى انهيار أشد. هذا الجيل لم يُنتج فكراً متوازناً وراشداً وعقلانياً. وإنما أنتج بعض التلفيقات النفسية التي لم تتكئ على قاعدة صلبة. فأدخلوا الأمة في دوامات متعارضة ومتلاطمة، وخاضوا في حقل من التجارب على غير هدى. هم لم يؤسسوا فكراً على أساس متين.
** لننتقل إلى موضوع آخر. تقول في مقدمة أحد كتبك “إن الأمر لا يحتاج إلى شرح مطول.. إن الأمة والمجتمع المسلم في تاريخنا المعاصر تتنازعها ثقافتان. ثقافة الأمة وهي الثقافة الإسلامية بمنابعها الإلهية القرآن والسنة. والثقافة الأخرى هي ثقافة أعداء الأمة، وتحديداً هي الثقافة الغربية. ولم يكن ثمة ثالث مع هاتين الثقافتين”.. في رأيك ما الفرق بين هذا الكلام وما يقوله سيد قطب “ليس هناك إلا مجتمعان.. مجتمع جاهلي ومجتمع إسلامي”.. وقول بن لادن “العالم ينقسم اليوم إلى فسطاطين، أحدهما لأهل الإسلام والجهاد.. والآخر لأهل الكفر”.. هل أنت امتداد للفكر الإسلامي الذي يقسم العالم إلى “معسكرين”. ويجعل كل المختلفين معه مهما بلغت تنوعاتهم واختلافاتهم وتضادهم في معسكر واحد هدفه الوحيد القضاء على معسكر أهل الإسلام؟***
ـ هذه القسمة في أصلها صحيحة، ولكن قد تختلف تطبيقاتها في وقائع متنوعة. لأن في العالم اليوم ثقافتين إحداهما هي الثقافة الإسلامية الأصيلة بمنابعها الإلهية القرآن والسنة. وهناك ثقافة أخرى وهي الثقافة الغربية التي يقر أصحابها بأنها تنتمي إلى جذور إغريقية يونانية وثنية ممزوجة بالتراث المسيحي اليهودي، وهذه الثقافة متناقضة تماماً مع تلك التي تعتمد المرجعية الإسلامية. وكانت هناك حالة طاغية من الانبهار في أوساط المثقفين المسلمين بالثقافة الغربية. وفي نفس الوقت جهل فاضح بطبيعة وأسس وأبجديات الثقافة الإسلامية. وهو جهل اعترف به بعضهم صراحة كما ذكر ذلك زكي نجيب محمود وغيره. إضافة لذلك كانت هناك محاولات اختراق للثقافة الإسلامية الأصيلة، والكلام الشهير الذي ذكره جان بول سارتر والذي قال فيه: إننا نأتي بأبناء المسلمين ليتعلموا عندنا ويأخذوا ثقافتنا ثم ليكونوا خير سفراء لهذا الفكر في بلدانهم. هذا الكلام يدل على ذلك. لذا كان لا بد من التصدي بشدة لوقف هذا الانهيار في المجتمع.
** وهل وقف الانهيار الذي تتحدث عنه يتم بهذا الشكل من التوصيف الذي يحمل قدراً كبيراً من التبسيط والتسطيح للمشهد الثقافي بحيث تلغي كل التنوعات، وتصادر هذا الطيف الهائل من الأفكار، وتقيم حالة من المفاصلة مع كل المختلفين، وتضعهم في معسكر واحد “القومي والليبرالي والماركسي”، “المتصالح مع الدين والمتخاصم معه”، وتلغي كل الخلافات والخصومات والمعارك فيما بينهم. ثم تنتقل لـ”المعسكر” الإسلامي لتصف هذا بكونه متميعا وهذا مبهورا ومستلبا للغرب وهذا يهدف إلى هدم الدين من الداخل، بحيث لا يبقى “صالحاً” و”راشداً” و”مخلصاً” في هذا العالم إلا من يتفق معك في الاتجاه الفكري؟***
ـ عندما تخوض معركة وجود سياسي أو عسكري أو ثقافي أو ديني فأنت لا بد أن تخوض معركة شاملة ضد خصومك بحيث لا يكون هناك مجال لمثل هذه التفصيلات، التي لا مجال لذكرها وأنت تخوض معركة وجود. المهم أن تحمي نفسك من الانهيار.. هذه التفصيلات التي ذكرتها تكون في مرحلة هادئة يسود فيها الحوار الفكري بحيث يتم التحاور مع الآخر حول طبيعة نقاط الاتفاق والاختلاف. ولكن في مرحلة المعركة الكبرى يجب ألا نُشتت جهودنا في تفصيلات، بل يجب خوض معركة شاملة مع الخصوم.. ومن هنا نفهم أهمية المواقف القوية والصلبة التي اتخذها مفكرون إسلاميون كسيد قطب وغيره، والتي نتج عنها صحوة إسلامية ضخمة جداً تعددت وتنوعت ووصلت إلى درجة كبيرة من النضج. هذا الحضور القوي وهذا النصر الذي تحقق على صعيد الواقع والفكر هو الذي أجبر كل الأطراف الثقافية الأخرى على أن تجلس معك وتتفاوض وتقول أنك لست سيئاً وأنها تتفق معك في كذا وتختلف في كذا، وأنت بدورك حينئذٍ تقول لهم إنكم أيضاً لستم سواءً وأفكاركم فيها الحسن والسيئ.
** إذا أنت تُقر أن تلك اللغة السائدة في كتبك كانت تنم عن معركة وليست دقيقة في توصيفها؟***
ـ نعم. فالمسألة لم تكن تحتمل ما ذكرت. كانت حرباً ثقافية، قد تقع فيها الأخطاء، وقد يسقط فيها ضحايا لم يكونوا مستهدفين أصلاً كما هي حال كل الحروب. كنا نخوض معركة كبرى، ومثل هذه التفصيلات لا مجال لها، لأن الأمة تنهار ويجب وقف الانهيار.. ثم ألا تلاحظ معي أن الشباب المسلم كان يخرج قبل خمسين وستين سنة من البلاد العربية محملاً بالقيم ومحافظاً على دينه وأصالته، ويذهب إلى أوروبا للدراسة فيعود من هناك وقد تلاشت كثير من قيمه وأخلاقه ونسي دينه وأصالته.. ثم بعد خمسين وستين سنة يحدث النقيض تماماً بحيث نجد أن الشباب المسلم يخرج من العواصم العربية في كثير من الأحيان وهو ضائع ومنحل وغير ملتزم بالقيم ليدرس في الغرب ويعود من هناك شابا متدينا ومحافظا على القيم والأصالة.
** وما تفسيرك لهذه الظاهرة؟***
ـ تفسيري هو أن الجهود الفكرية والثقافية الإسلامية التي تتحدث عنها وتلومها أنت الآن هي التي أعادت الاعتبار لإيمان المؤمن ولإسلام المسلم، وأنه هو الأعلى، وأن هذه الحضارة الغربية التي صُنع لها هذا الخيال الضخم هي في حقيقتها نجحت في فكرها التنظيمي، ولكنها حضارة تحمل قيماً فاسدة ومعادية للفطرة ومآلاتها ستعود على البشرية بالدمار.
** يلحظ المتابع لكتبك أنها جميعاً كتبت بروح معاركية تستهدف القضاء على الآخر وتعريته وتشويهه.. ليس هناك أي روح بنائية فيما تكتب.. لم تدخل إلى المناطق الشائكة وتتحدث عن إشكالات النهضة المعاقة وآليات التطور الحضاري، وتسهم في رسم ملامح المدنية الحديثة وتوعية الرأي العام الإسلامي “الذي يقرأ لك” بضرورات النهوض؟***
ـ نعم ما ذكرته صحيح وضروري. ولكن لا يجب على الجميع أخذ هذا المنحى، ويتركون الأخطار التي تهدد وجود الأمة وتهدد هويتها.. لا بد أن يكون هناك من يقوم بالدفاع عن هوية الأمة وأصالتها وينبه للأخطار المحدقة بها. وأن يكون هناك من يقوم بالدور البنائي، ويطرح رؤى جديدة، ويقوم بالحوار والتواصل مع الآخرين.. لا بد أن يكون هناك توزيع للأدوار..
** غالب الإسلاميين الذين تحاورت معهم يتحدثون عن توزيع الأدوار، ولكن في النهاية لا أحد يمارس الدور الآخر، بقدر ما أن الجميع يهبون للدفاع عن الهوية وحماية الأمة من الأخطار كما تذكر.. في اعتقادي ما زال البعد البنائي يعيش فراغاً ضخماً ولا يُجيد الكثيرون الدخول في وعورة اشكالاته. ومن يُقدم على ذلك ويتحدث في رؤى بنائية ويطور بعض المفاهيم ويحاول تفكيك التأزمات المعيقة للتطور، لا يسلم من هجوم شرس انتقائي يتعامل مع نصوصه مفصولة عن السياق، ويجري على فكره محاكمات شرعية دون أي تقدير للجهود الكبيرة التي يقوم بها. كما تفعل أنت مع هؤلاء في كثير من الأحيان؟***
ـ من يخوض في مثل هذه الأفكار والرؤى البنائية يكون معرضاً للخطأ بشكل أكبر. لذا هم يتعرضون للنقد. والنقد كممارسة يجب ألا يسلم منه أحد، ويجب أن تجري على الجميع. وإذا كان هذا الباحث صادقاً في اتجاهه البحثي ومخلصاً لمجتمعه وأمته فيجب ألا يعيقه هذا النقد، وأن يكمل مشواره إلى آخر الطريق. ولكن مشكلة هذه الأطروحات الجديدة والبنائية والتي يدعو أصحابها إلى الحوار وإلى التواصل مع العالم المفتوح أنها في كثير من الأحيان تكون ردات فعل على واقع مأزوم. ولا تكون فعلاً تلقائياَ متوازناً وأميناً. بل تكون متأثرة بالواقع وبأطروحاته، وتعمل تحت ضغط هذا الواقع، وتصل في كثير من الأحيان إلى رؤى توفيقية غير أصيلة وغير متوازنة.
** حين تتحدث في كتبك ـ التي ما زالت تُسهم في صياغة فكرة الصحوة ـ عن “الديمقراطية” فأنت ضدها على طول الخط.. وفي كتابك “جهادنا الثقافي” كتبت بلغة مشحونة بالعاطفة ضد فتوى أصدرها الشيخ يوسف القرضاوي في جواز الممارسة الديمقراطية، وكنت تخاطبه بقولك :”يا شيخ يوسف، الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة أوروبية واحدة، ومن قال لك غير ذلك فقد كذبك”.. ثم أنت الآن تخوض العمل الديمقراطي، وتطالب بتكوين حزب سياسي، ولا ترى أن الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة واحدة؟***
ـ لا، الديمقراطية كما يقدمها الليبراليون اليوم في العالم العربي هي الوجه الآخر للعلمانية، وهو ما أضر بالفكرة الديمقراطية بالعموم، حيث أن الفكرة الديمقراطية هي في حقيقتها قسمان: فهي في جزء منها آلية لتنظيم المجتمع وتنظيم نشاطه السياسي، وهي في الجزء الآخر استيراد لمجموعة من القيم والأفكار التي نشأت في ظلها الفكرة الديمقراطية في الغرب.
** ولكن لا ذكر للقسم الأول في كتبك***
ـ لأن الذي يقوم بتسويق الفكرة الديمقراطية في مجتمعنا يقول إما أن تأخذ الديمقراطية كلها بكل منظومتها القيمية والأخلاقية، وإما أن ترفضها كلها، لذا كان الرفض من قبلي. وهذا لا تجده عندي فقط بل يقوله كثير من الإسلاميين، كما فعل الشيخ علي بلحاج في الجزائر الذي كان قد رشح نفسه للانتخابات ويقوم بقيادة مجموعة قبِلت بخوض اللعبة الديمقراطية، ومع ذلك كان ينشر في نفس الوقت مجموعة من المقالات تحت عنوان عريض “الدمغة القوية في كفر الملة الديمقراطية”.
** وأنت تؤيد هذا الفعل؟***
ـ أنا أردت فقط أن أوضح لك أن هناك رفضا للصيغة الليبرالية للديمقراطية التي تعتمد على رفض المقدس وأن المرجعية المطلقة هي للناس. وهنا تكمن خطورة الديمقراطية.
* ألا تعتقد أن التفريق بين الديمقراطية كآلية للعمل السياسي وطريقة لاتخاذ القرار، وبين الديمقراطية اللصيقة بالأيديولوجيا والمحملة بمنظومة قيمية ليبرالية.. أن التفريق بين هذين التطبيقين للديمقراطية هو أمر في غاية الأهمية، حتى لا يتكرس هذا الانطباع الحاد عند تيار الصحوة وعند كثير من قطاعات المجتمع ضد الفكرة الديمقراطية باعتبارها لصيقة بالعلمانية ووجها آخر لها؟***
ـ الليبراليون العرب هم المسؤولون عن تنفير الناس من فكرة الديمقراطية. وهم المسؤولون عن تنفير الناس من مصطلح ومفهوم “الحرية”. لأنهم طرحوا الحرية على أنها حرية الكفر والانحلال الأخلاقي ومصادمة الأمة في قيمها. وتجد كثيراً منهم لا ينطقون بكلمة ضد الاستبداد السياسي، وفي الوقت نفسه يكرسون كل حياتهم للدفاع عن كتَّاب سبوا الرسول أو تعرضوا للذات الإلهية بحجة الدفاع عن الحرية والنضال من أجلها. هم لم يفرقوا بين الحرية المسؤولة والحرية المدمرة والتي تصادم الناس في معتقداتها وقيمها، وبين الديمقراطية كآلية للاختيار والديمقراطية اللصيقة بالرؤية العلمانية.
** وأنت أيضاً لم تفرق في كتبك بين الديمقراطية كآلية والديمقراطية المحملة بالأيديولوجيا؟***
ـ لأنني أنا أرد على الصيغة التي طرحوها.
** يعني أنك تواجه التطرف بتطرف؟***
ـ لا، ولكنني أجبت عليهم. هم يقولون لنا :إما أن تأخذوا الديمقراطية بصيغتها العلمانية، أو تدعوها كلها. ولذلك أجيب عليهم أننا لن نأخذها. ولكنهم لو طرحوا الديمقراطية على أنها آلية لتنظيم المجتمع لقبلنا بالفكرة، لأننا في شريعتنا نملك مفهوم الشورى. والديمقراطية الحديثة عبارة عن فكر تنظيمي تم اختباره في الواقع وأثبت كفاءته، كتنظيم طريقة الانتخاب، وفصل السلطات، والرقابة على الجهاز التنفيذي. هي تجارب بشرية أثبتت نجاحها.

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!