وتؤكد سوزان أبيطار في لحظة عودة إلى الحاضر، أن استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية “أجمل هدية لليهود المغاربة في إسرائيل، حيث سيتمكنون أخيرا، من زيارة المغرب عبر رحلات جوية مباشرة”.

وتضيف الناشطة المدنية، في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن “تسيير رحلات مباشرة سيمكن أكبر عدد من اليهود المغاربة من زيارة أحياء الملَّاح، وتجديد الصلة مع ماضيهم وماضي أجدادهم”.

واحتضنت أحياء الملَّاح، التي تنتشر بعدد من المدن المغربية، اليهود الذين عاشوا بالمغرب منذ قرون طويلة، حيث شيدوا بها منازلهم ومحلاتهم التجارية ومدارسهم ومعابدهم.

ولم تكن هذه التجمعات اليهودية مغلقة، بل انفتحت على المسلمين، فكانت “فضاء بارزا للتعايش السلمي بين الديانتين”.

كما شكلت أحياء الملَّاح، في غالب الأحيان، القلب التجاري النابض للمدن التي أقيمت بها، فقد كانت تضم أهم الأسواق والأنشطة التجارية التي يبرع فيها اليهود، كصياغة وبيع المجوهرات ونسج الصوف وتجارة الشاي.

وتحكي أبيطار التي استقرت رفقة والديها بحي الملَّاح عام 1944، قادمين من منطقة درعا جنوبا، أن الحي كان يضم اليهود والمسلمين المغاربة الذين “تعايشوا في جو يسوده احترام عادات وتقاليد كل دين، كما تقاسموا الاحتفالات والأحزان”.

ورغم أن أسرة أبيطار فضلت عدم الهجرة من المغرب، فإنها اضطرت لمغادرة الملاح، بعدما بات الحي شبه فارغ من اليهود وتوالت هجراتهم في الستينيات صوب إسرائيل وأوروبا وكندا.

وتؤكد أبيطار أن علاقتها بالملاح وبالأسر المسلمة في الحي “ما زالت مستمرة ووثيقة”، وتضيف لموقع “سكاي نيوز عربية”: “أشتري من تجار الحي، وأزور باستمرار أخي بالرضاعة، وهو مسلم”.

وبحكم عملها كناشطة في الهيئات المدنية بالدار البيضاء، ترافق هذه السيدة السبعينية، اليهود المغاربة الذين يأتون من الخارج ويرغبون في زيارة الملاح بحثا عن منازل ذويهم، أو عن جيرانهم المسلمين.

ظهور “الملاح”

وتشير بعض الدراسات التي تغوص في تاريخ الوجود اليهودي بالمغرب، وهو تاريخ قديم جدا، أن أصل التسمية يعود لأول حي يهودي تم بناؤه في مدينة فاس، عاصمة المغرب لقرون، في منطقة كان يجمع فيها الملح ويخزن تمهيدا لتصديره عبر القوافل التجارية.

وقد أطلق على الحي اسم الملاح في عهد الحكم المريني في القرن الخامس عشر، قبل أن يعمم على كل التجمعات اليهودية التي ستقام بالمغرب لاحقا.

ومن حيث شكلها الهندسي، كانت أحياء الملاح محاطة بالأسوار ولها عدة منافذ، كما تميزت بمنازلها المتداخلة وكثرة المحلات والأسواق. أما جغرافيا؛ فكانت تلك الأحياء تقام، غالبا، بالقرب من قصور ومراكز السلطة، حيث كان الحكام يعتمدون على مهارة اليهود في صناعة الحلي والمجوهرات والتجارة والمضاربة بالأموال.

ويؤكد الباحث في الموسيقى والتراث اليهودي، محند الحداوي، أن وجود أحياء الملاح بالقرب من قصور السلطة كان “يوفر لهم الحماية من أي مخاطر قد يتعرضون لها”.

ويضيف في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن “اليهود كان يمارسون شعائرهم بكل حرية داخل الملاح، لتمتعهم بوضعية أهل الذمة التي مكنتهم من الاستقلال النسبي في تسيير تجمعاتهم”.

نقطة تعايش

ورغم أن أحياء الملاح، شكلت نموذجا للخصوصية اليهودية، خاصة فيما يتعلق بالجانب الديني، فإنها اعتبرت بمثابة مؤسسة سكانية واقتصادية مشتركة بين اليهود والمسلمين، حيث ضمت تلك الأحياء منازل المسلمين، وقد كانت المعاملات التجارية والإنسانية مشتركة بين معتنقي الدينين الإسلامي واليهودي.

ويشير حداوي إلى أن حالة التعايش انعكست بشكل واضح في بعض المدن التي لم تشيد فيها الأحياء اليهودية، كمدينة وجدة شرقي المملكة، “التي عاش فيها اليهود في أحياء المسلمين”. واضاف أن هذا التعايش لم يقتصر فقط على المدن الكبرى وإنما على المناطق النائية، خاصة في جبال الأطلس.

الطفولة في الملاح

وتستحضر فاني ميرغي، وهي مغربية من أصول يهودية، طفولتها بالمدينة العتيقة للدار البيضاء، التي كانت امتدادا لحي الملاح المجاور، وتحكي المرأة التي عاشت في الحي خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب، أنها “لم تشعر قط بأي فرق بين يهودي ومسلم”.

وتضيف: “كنا في عيد ميمونة نطرق نحن اليهود، أبواب المسلمين ونقدم لهم باقات الزهور، وكانوا في أعيادهم يتقاسمون معنا أطباق الحلوى والمأكولات الخاصة بالمناسبة”.

وتقول هذه السيدة التي شارفت على سن الثمانين، إن جيرانها من المسلمين كانوا يقدمون لهم كل أنواع المساعدة، في يوم السبت المخصص للراحة والعبادة عند اليهود.

وبعين دامعة، تتذكر ميرغي، كيف كانت تودع أصدقاءها اليهود وهم يغادرون الحي رفقة ذويهم باتجاه بواخر تقلهم إلى إسرائيل، وقد كانت في بعض الأحيان “تتسمر بالميناء الذي لم يكن يبعد كثيرا عن حي الملاح، إلى حين تواري الباخرة عن الأنظار”.

وتؤكد ميرغي أنها اليوم “سعيدة جدا” باستئناف الرحلات المباشرة بين المغرب وإسرائيل، وتردف قائلة: “الآن قد أتمكن مجددا، من رؤية أصدقاء الطفولة واستحضار ذكريات الملاح والمدينة العتيقة معهم”.