“سيرة شبه محرمة”.. كتاب يخلع عباءة القداسة عن تمثال بورقيبة

كتاب ألفه أحد المنفيين الذين هربوا من بطش بورقيبه، يكشف فيه عن أحداث لم يكن أحد يجرؤ على الحديث عنها في عصره.

خاص-الوثائقية

ظهرت صورة الحبيب بورقيبة في مرآة الصافي سعيد كشخصية درامية، امتزجت فيها الرواية بالتاريخ وتداخلت فيها إكراهات السياسة بدواخل العاطفة، سيرة تجرأ الصافي فيها على تجاوز المحرمات والممنوعات التي أحاطت ببورقيبة مناضلا ورئيسا، ثم شيخا مبعدا عن الحياة السياسية والاجتماعية، في بلاد أحكم قبضته عليها عدة عقود؛ أبا وزعيما روحيا قبل أن يكون رئيسا.

 

بين يدينا اليوم كتاب “بورقيبة.. سيرة شبه محرمة” لمؤلفه التونسي الصافي سعيد، وهو الكتاب الذي أثار جدلا ونقاشا كبيرين؛ سواء حيث حول شخصية السيرة لحبيب بورقيبة نفسه، أو حول الكاتب بصفته كان خصما سياسيا لبورقيبة. وقد وثّقت قناة الجزيرة الفضائية هذا السجال حول الكاتب والكتاب، واستضافت له الكاتبَ وثلّة من النقاد والسياسيين، وأخرجته في حلقة من حلقات برنامج “خارج النص”.

“كان بورقيبة بالنسبة لي بطلا روائيا”.. كتاب تصفية الحساب

يقول الكاتب والصحفي حسونة المصباحي: تكتب السيرة لكشف خفايا شخصية معينة، وبورقيبة هو شخصية تاريخية قابلة للجدل والتفكيك بطرق مختلفة، سواء من الناحية النفسية أو السياسية أو الفكرية، ولكن كما يراه كاتب السيرة، وليس كما هو بورقيبة بحقيقته. ويجب أن يخضع الكتاب للمراجعة الدقيقة، بعيدا عن التشنجات الشخصية، ولأن الصافي كان خصما سياسيا لبورقيبة.

وعندما كتب الصافي سعيد قصة بورقيبة لم يكن يروي السيرة فحسب، بل كانت خيالات ذكرياته عن القمع والاستبداد جزءا من السيرة، فقد صدر في حقه حكم غيابي بالإعدام في زمن بورقيبة، الزمن الذي امتلكه رجل واحد اجتمعت فيه المتناقضات، فكان مبهرا وموجعا في آن واحد.

الصافي سعيد مؤلف كتاب “بورقيبة، سيرة شبه محرمة” كان صدر في حقه حكم غيابي بالإعدام في زمن بورقيبة

 

وقد وصف الصافي سعيد كتابه بقوله: في السيرة شحنة سردية روائية (درامية)، وكان بورقيبة بالنسبة لي بطلا روائيا، أردت أن أصفي حسابي معه، فكتابة السيرة بمثابة تصفية حساب مع الشخصية. وقد كان الحديث عن بورقيبة من المحرمات تقريبا في عهد بن علي، وهذا ما دعاني لاختيار هذا العنوان “سيرة شبه محرمة”، أو السيرة الممنوعة”.

أما الكاتب والسياسي عبد الحميد الجلاصي فيقول: بورقيبة ذكي جدا وعنده مؤهلات الزعامة، ولديه قدرة كبيرة على الإبهار والإقناع، ولكن الصافي أراد أن يقول إن هنالك صورة ما ترتسم للقادة والزعماء حتى تصبح نوعا من الأسطورة، والاشتغال عليها بالكتابة هو الذي يكسر تلك الصورة النموذجية ويقترب بها إلى الحالة البشرية.

بورقيبة وفرنسا.. معارضة للاستعمار وانبهار بالحضارة

عكس الكتاب شخصية مركبة لزعيم ناضل ضد الاحتلال الفرنسي، لكنه ظل وفيا في أعماقه للمدرسة الفرنسية في الفكر والثقافة، منحازا للأفكار الحداثية، والمدرسة العقلانية الغربية، بالتوازي مع احتقاره للشرق ونبذه للقومية العربية.

وفي ذلك يقول مؤلف الكتاب: كان محرما على تونس أن تكون دولة عربية، هكذا لدواعٍ واهية، وليس من بورقيبة فقط، بل من كل طغمته الحاكمة، لقد بالغ بورقيبة كثيرا في ذهابه مع حلف شمال الأطلسي، مما يعني أننا تخلصنا من فرنسا لنقع ثانية بين براثن فرنسا وحلفائها.

عاد بورقيبة من منفاه سنة 1955 حاملا روح الثورة ضد المستعمر وليس ضد ثقافته ومدنيته

 

ويوافقه الكاتب الجلاصي، إذ يقول: كان بورقيبة ضد فرنسا التي تحتل تونس، لكنه كان منبهرا بفرنسا كنموذج للثقافة والفكر، ويحتقر الشرق. لربما لم يكن الصافي سعيد حاسما في هذه القضية خلال كتابته لسيرة بورقيبة.

أما السياسي أحمد نجيب الشابي فيذكر أن بورقيبة كانت له أثناء الحرب الباردة اختيارات لا تتماشى مع مشاعر التونسيين، فكان الشباب ميالين للمعسكر الشيوعي الشرقي، “وفي تلك الفترة لم نكن نرى سوى الأشياء التي تؤجج صراعنا ونضالنا ضده”.

معركة بنزرت.. أغراض شخصية حملت آلاف العزّل إلى الموت

أثار مؤلف الكتاب الصافي سعيد في كتابه شكوكا حول نيات بورقيبة من معركة بنزرت التي نادت بجلاء فرنسا التام، وكان وقودها متطوعون من كامل التراب التونسي، وذلك التشكيك باعتباره ألقى بمواطنيه إلى مجزرة حقيقية خدمة لأغراضه الشخصية.

فقد ورد في الكتاب ما نصه: ضغط الجنود الفرنسيون على الزناد وأمروا بوقف الزحف، لكن ما من أحد كان يصدق أن الموت بسيط إلى تلك الدرجة في ذلك اليوم. فقد سقط الصف الأول من المتظاهرين تحت الرصاص، وتحمَّس الحرس الوطني وكذلك بعض الجنود التونسيين ليتقدموا نحو القاعدة، وقد غطوا تقدمهم بآلاف الناس، فإذا بالرصاص يحصد عدة آلاف في بضع دقائق.

معركة بنزرت التي ألقى بورقيبة بمواطنيه فيها إلى مجزرة حقيقية راح ضحيتها الألوف منهم خدمة لأغراضه الشخصية

 

كان كل شيء يسير نحو الأسوأ، وقد أدرك بورقيبة أن المذبحة آتية، فاستدعى وزير إعلامه ليكتب رسالة إلى “ديغول” يطلب فيها منه الانسحاب من بنزرت، وإذ بوزير الإعلام يسأله: وهل تريد أن يجيبك بلا أو نعم؟ قال بورقيبة بسرعة: أريده أن يجيب بلا. كان بورقيبة يريد مواجهة مفتوحة ليسجل بطولة لم يستطع تسجيلها في السابق، أو لكي يثبت لأعدائه أنه ليس رجل سياسة فقط، بل رجل حرب أيضا.

وقد وصف المؤرخ عبد الجليل التميمي الواقعة بقوله: كانت هذه المعركة نزعة شخصية من بورقيبة، حتى يبرز أنه كان قائد المعركة الداخلية والخارجية، دون أن يستعد لهذه المعركة، إذ فرنسا هي القوة العسكرية الرابعة في العالم.

وقد قال عنها السياسي أحمد نجيب الشابي: عشت أحداث بنزرت وكنت مراهقا، وكان والدي في مكتبه قرب مستشفى “شارل ديغول” الحالي، وعاد إلى البيت يبكي ويقول لي وللعائلة: الجثث بالمئات تأتي بهم الشاحنات.

“كرسيّ الحكم مثل القبر لا يتسع لاثنين”

صدم الشعب التونسي من مجزرة بنزرت، وأخذ يلوم بورقيبة على سوء تخطيطه لهذه المعركة، وعاد الحديث عن صالح بن يوسف كزعيم، ومن جملة الأشياء التي دفعت بورقيبة إلى اغتيال صالح بن يوسف هي استرجاع صالح لشعبيته لدى التونسيين بعد بنزرت.

كان الاختلاف بين الرجلين على الزعامة فقط، وليس على شكل الاستقلال أو محتواه، لكن بعض الآراء رأت أن صالح كان يرى أن وثيقة الاستقلال الداخلي خيانة، ليس للتونسيين فقط بل لكل المغاربة العرب، فمن غير المعقول أن تستقل تونس بينما جارتها الجزائر ما زال شعبها يعاني الأمرّين تحت حكم المحتل الفرنسي.

بعد عودة صالح بن يوسف إلى تونس، شعر بورقيبة بوجود منافس له على السلطة، فقتله

 

يقول مؤلف الكتاب: إذا كان بن يوسف لم يقتل بورقيبة فلأنه لم تسعفه الوسائل والحبكات، أما بورقيبة الذي قتل بن يوسف فقد فعل ذلك دون أن يرف له جفن. كان كل واحد منهما يريد أن يصطاد الآخر، حتى إذا أغمض بن يوسف عينيه لحظة، فقد القدرة على فتحهما إلى الأبد، هكذا في اللحظة التي نشعر فيها بالاطمئنان نكون قد وقعنا في الفخ، فكرسيّ الحكم مثل القبر لا يتسع لاثنين.

لعنة الانقلابات.. افتتاحية حياة السلطة وخاتمتها

كشفت السيرة جرعات عنف كبيرة في شخصية بورقيبة، كل ذلك وجّهه دفعة واحدة للمتآمرين عليه سنة 1962، في فصل تراجيدي قتل فيه الأب أبناءه، فاقتيد إلى المحاكمة 25 من العسكريين والمدنيين، وأعدموا جميعا. وبرّر بورقيبة ذلك بعدها بـ”أن القوة وحدها هي التي تقضي على التمرد الشعبي وتنزع منه (شيطانه البربري)، وأن الحرية تجرّ إلى الفوضى”.

وبعد وجبة الإعدامات هذه، تحولت البلاد إلى حكم الحزب الواحد، ثم إلى الرجل الواحد، حتى أصبح هذا الرجل “نصف إله”، وصار الولاء له يشبه العبادة. وقد وصفه السياسي أحمد نجيب الشابي بقوله: كان بورقيبة مستبدا، ولم يكن يرى أن الشعب التونسي أهل لأن يحكم نفسه. نعم خلّصه من الاستعمار وحقق له الحرية الوطنية، ولكن ليس الحكم، فقد صادر هذا الاستبداد كل الحريات.

انقلاب بورقيبة على آخر بايات تونس أثمر في آخر عمره انقلاب بن علي عليه ووضعه في الإقامة الجبرية

 

ظل بورقيبة مطاردا بلعنة الانقلابات، بدءا بانقلابه على حكم البايات وحتى انقلاب بن علي عليه، ولئن أسهب المؤلف سعيد الصافي في وصف انقلاب بورقيبة على البايات، فإنه لم يُطِل في وصف انقلاب بن علي عليه، فقد أظهره في صورة المنقذ، وتغاضى عن آخر سنوات بورقيبة في سجنه الأخير.

كان انقلاب بن علي مدنيا، أو قل “دستوريا” كما أسماه الصافي بن سعيد، وكان ذلك بعد أن علم بن علي أن بورقيبة سمّى محمد الصياح وزيرا أول، فطلب بن علي من وكالة الأنباء عدم نشر الخبر، ووقع انقلاب نوفمبر/ تشرين ثاني 1987 في دقائق معدودة. لقد أراد بورقيبة التمسك بالحكم حتى آخر لحظة، حتى وهو يعلم أنه لم يعد قادرا على الوقوف.

نزع القداسة.. حقائق من حياة الصنم الذي هوى

تعرض بورقيبة لاحتقار كثير في أيامه الأخيرة، فقد حُبس في بيته بالمنستير، ولم يكن يسمح لأحد بزيارته إلا بإذن من بن علي نفسه، وكان الأطباء يزورونه في فترات متقطعة حتى ساءت حالته الصحية كثيرا.

وقد تحدث الصافي بن سعيد في سيرته عن قرن كامل من الزمان، وتعرض خلالها للحديث عن دقائق وحقائق مشينة في حياة بورقيبة، فواجه إثرها انتقادات حادة، واتهمه كثيرون بصفته من خصوم بورقيبة، وبأنه اختلق قصصا كثيرة حول دَوْر النساء والمال في حياة الرجل، أو أنه تلقّى هذه القصص من خصوم بورقيبة المنتشرين عبر العالم.

بعد توليه مقاليد الحكم، بورقيبة ينزع الحجاب مبتسما عن رأس امرأة وسط الجماهير

 

ويدافع الصافي عن نفسه قائلا: لقد نزعت فقط عن هذه الشخصية القداسة المطلقة التي كان بورقيبة يحاول نسجها حول نفسه، أردت أن أقول إنه رجل عادي، يحب ويكره، يعدل ويظلم، يسامح ويحقد، له أنصار وله خصوم أيضا. وبعد أن صدر الكتاب لم يكلمني فيه أحد، فعلمت أن بورقيبة بعد أن مات لم يعد يخيف أحدا، وما عاد أحد مهتما بما كتب عنه أو فيه.

لقد عاش بورقيبة حياة طويلة جدا، بل حيوات كثيرة، مناضلا لا يشق له غبار، وزعيما ألمعيا بلا منازع ورئيسا مدى الحياة فوق كل الشبهات، ثم شيخا هرما متكئا على عصاه وماضيه، وبطريركا متدثرا في خريف لا ينتهي، ومُقعدا بلا روح ولا صولجان، ومنفيا مجبرا على الصمت والنوم حتى مات.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!