في مديح الفكر المأساوي كليمونت روسيه: إطمئن… ليس لديك ما تنتظره فلن يخيب أملك

كليمونت روسيه (1939 ــ 2018) فيلسوف فرنسي عصي على التصنيف، ويعد متفردا في بحثه الفلسفي والفكري، في المشهد الثقافي الفرنسي. يبحث دوماً في إشكالية الوهم، وينتصر للحقيقة. كان مديحه للفكر المأساوي بمثابة نشيد للفرح المعاش. في الحوار التالي نقترب أكثر من فكر ورؤى كليمونت روسيه.. ■ تذكر في مؤلفاتك أن البشر يقضون جلّ حياتهم هربا […]

Share your love

في مديح الفكر المأساوي كليمونت روسيه: إطمئن… ليس لديك ما تنتظره فلن يخيب أملك

[wpcc-script type=”30dc5198bcb0f74ee15c80e4-text/javascript”]

كليمونت روسيه (1939 ــ 2018) فيلسوف فرنسي عصي على التصنيف، ويعد متفردا في بحثه الفلسفي والفكري، في المشهد الثقافي الفرنسي. يبحث دوماً في إشكالية الوهم، وينتصر للحقيقة. كان مديحه للفكر المأساوي بمثابة نشيد للفرح المعاش. في الحوار التالي نقترب أكثر من فكر ورؤى كليمونت روسيه..

■ تذكر في مؤلفاتك أن البشر يقضون جلّ حياتهم هربا من الواقع: كل شيء نؤمن به، نحبه، نأمله، نبدعه، ما هو بالأخير سوى واقع «مزدوج»، متخيل وكاذب. لماذا نفضل الوهم على الواقع؟
□ نحن جميعا نواجه صعوبة كبيرة في تقبل الواقع الحقيقي، لأنه شيء سريع الزوال وخطير. وهذا من شأنه أن يجبرنا على مواجهة احتمالات للواقع غير سارة: كل شيء قابل للتلف على المدى الطويل، ليس فحسب فقط المؤلف، بل عمله نفسه سيتم تجاهله، في يوم من الأيام. حقيقتنا وأطفالنا وكل ما أحببناه، ذاهب للاختفاءات المطلقة. هذا مبرر حقيقي بالنسبة لي، كي يريد الإنسان الهروب من هذا الواقع. إن استمتاعنا في التفكير بامرأة جميلة، أو زهرة جميلة، أو عمل موسيقي أو فني، هذا الاستمتاع يتعرض حتما للهجوم، من خلال فكرة أننا بذلك نعطي تمسكا بشيء ليس له مستقبل. وهذا بالتالي أحد الطرق للتخلص من الواقع المستعصي بخلق «ازدواجية الواقع»، والإيمان بأن حقيقة أخرى ممكنة الوقوع.
■ لكن ما هي استفادة الإنسان، في مواجهة واقع مأساوي أساسا محكوم عليه بالموت؟
□ التفكير المأساوي بالتحديد يساعدنا في الاستمتاع بالفرح الحالي، بدون السقوط المدوي للّسعة القلقة الناجمة عن الأثر، الذي ستحصل عليه هذه الأشياء والتجارب المارة. كن صديقًا للحاضر الذي يمرّ، في غياب الماضي وفي انعدام المستقبل. هذا هو السبيل الوحيد للقبول، ليس من اللامبالاة ولكن من خلال الفرح المؤكد والمنتصر، وبالمصير المشترك لجميع الملذات الموجودة، بدون الحاجة إلى القلق بشأن مصير ماذا حدث وما سيحدث؟ إن ما تخشاه من الماضي والمستقبل سيُسلب منك، وهكذا سيمنح لك الحاضر، لأنه لن يكون عرضة للحزن بعد الآن.
■ هل تعتقد أن الفلسفات التي سعت لتفسير الواقع الحقيقي تفشل دائما في جعل الإنسان سعيدًا؟
□ بالتأكيد. لقد سعى الفلاسفة في كثير من الأحيان إلى تعريف الواقع الحقيقي، بما بدا لهم أنه أكثر واقعية في جانب أو آخر من جوانب الواقع. فهو في نظر كارل ماركس، «البنية التحتية الاقتصادية»، وعند أفلاطون، «الفكرة الأبدية». ولكنهم لم يتمكنوا من عزل هذا الواقع الأبدي، على حساب رفض أكثرية من نصف العالم، أي العالم الحساس. هذا البتر هو حكم إدانة، يبدو لي أنه يحبذ ما يسميه نيتشه «الاستياء». إن الموافقة على ما هو جيد في الحياة، وليس على ما هو سيئ يقودنا إلى جدلية الخير والشر، والحقيقة الجيدة والسيئة، وازدواجية الواقع. كيف إذن يمكننا الوصول إلى الفرح الهادئ؟ ولكن، أخيرا، أستمع لسؤالك بإمعان. هناك واقع غامض بعض الشيء، لماذا لا؟ ونحن نتفق مع رؤية باسكال للترفيه: «بما أن الرجال لا يستطيعون شفاء الفقر، والموت، والجهل، فقد قرروا أن يسعدوا أنفسهم بعدم التفكير في ذلك».
■ هل هذا يعني أنك تدافع عن فلسفة الاستقالة؟
ـ بداية الحكمة هي الاستقالة. هناك، في الاستقالة، عملية تطهير جميع الحلول الخاطئة للقلق، وبالتالي إنشاء نقطة اتصال مع الواقع. في الحقيقة، القلق لا يستسلم إلا عندما لا نحاول علاجه. يمكنك محاربة القلق فقط بمجرد توقفك عن محاربته. للقلق، عليك أن تقول، «تعال، تصرف كأنك في منزلك». واحدة من أقوالي في الحياة هي،» إطمئن، كل شيء يسير بشكل سيئ» أو «ليس لديك ما تنتظره، فلن يخيب أملك.»
■ ومع ذلك تكتب أن هناك متعة إعجازية في قبول مأساة الحقيقة. كيف تفسر ذلك؟
□ أنا لا أشرح هذا الابتهاج على الإطلاق. كل ما أراه هو أن هذا هو الموقف الوحيد الذي يمنح الرجال السعادة، وهذا سبب منطقي للعيش في موارد للسعادة؟ وهذا يكفيني جيدا لإيجاد مادة للسعادة، على الرغم من أن المنطق يرى في ذلك رعبا، نحن بالطبع بحاجة إلى نوع من الإعجاز، الذي أدعوه الفرح. إنها مساعدة خارقة للطبيعة لا أستطيع تفسيرها.

نحن نوافق فقط على الواقع في المناسبات العظيمة، عندما تكون هناك عاطفة شديدة أو مشكلة خطيرة جدا يتعين مواجهتها. هذا يحدث فقط ثلاث أو أربع مرات في حياتنا.

■ أنت تؤمن ببنية حقيقية تستبعد كليا الممكن. هل حقا نريد عالما بدون احتمالات؟
□ أنا سأذهب إلى أبعد من ذلك: إنه في عالم بلا إمكانيات أنت مطمئن أكثر إلى رغبتك! لست مقتنعًا على الإطلاق مثل أفلاطون أو لاكان، بأن الرغبة تعني الافتقار إلى الموارد، بل الأمر على عكس ذلك، كلما قل احتمال عدد الإمكانيات المتاحة، وكلما كان الأمر أكثر واقعية، كان من الممكن ممارسة الرغبة بطريقة ملموسة، وتسمح بالوصول إلى المتعة. ومن غير العادي أن ينكر معظم الفلاسفة هذه الأدلة. إن الفكرة التي مفادها، إنه تكمن الرغبة في الأشياء غير الموجودة، فقط تأتي من أشخاص تسببت صعوبات عيشهم في جنونهم. وحينما يقول ليفيناس: «إن المداعبة الحقيقية لا تلمس شيئًا»، فأنا أتساءل لماذا أشار بذلك. ليس فقط يمكن للمرء أن يرغب في ما هو عليه وحسب، بل قبل كل شيء يمكنه أن يرغب في ما هو عليه. إن اقتران الرغبة بالافتقار هو انعكاس للمعاناة، اختلال خطير في التوازن. أولئك الذين يعتقدون ذلك لا يجعلون مهمتهم أسهل، لأن الكائن يجب أن يكون غير قابل للوصول ليكون موضع اهتمام! الفلاسفة يحبون الانعكاسات، لكنهم يدينون أنفسهم بالإحباط، بين قطعة فاكهة المانجو الجيدة هنا وانعكاسها في الجليد، أما أنا، فما زلت أفضل التي على مائدتي.
■ في كتابك «لا مرئي» تقول إننا لا نرغب أبدا في شيء بمفرده، ولكن هناك العديد من الآخرين يحومون حول هذا الشيء، ويكون بعيد المنال عنا. أليست هذه طريقة للاعتراف بأننا نرغب فقط في ما لا نملك؟
□ لا، إنها بالأحرى مسألة ملاحظة أن الرغبة تعمل بطريقة متسلسلة: الأشياء الأخرى للرغبة لا تجذبني، لأنها غير قابلة للتطبيق، ولكن لأنها تجعل الشيء المعني «الرغبة الرئيسية» أكثر جاذبية، ثم تميل الرغبة والفرح إلى التكاثر في المناسبات المحددة التي فيها الرضا ملموس. دعونا نأخذ مثال أوراكل «نبوءة عراف أو كاهن مدينة دلفي»، لقد لاحظتم أنه في كل الأحوال تقريباً عندما نحاول منعه من الحدوث، ينجز. ومن الطبيعي أن يتصور المرء أن أوراكل من دلفي خدع أوديب. وأن يخدع أوديب أمر مؤسف. وكان من الممكن أن يمر عبر طرق معقدة ومتعبة، أدت إلى خسارته، عندما كان من الممكن أن يحقق أوراكل، هذا بطريقة أبسط وأكثر مباشرة. ولكن هذه الفكرة كانت مجرد فكرة وهمية بامتياز. في الواقع، يمكن أن تكون هناك ألف طريقة ليدرك أوديب أوراكل. كلهم أكثر تعقيدًا، وأكثر غرابة، وتشتمل على احتماليات أكبر من تلك الموجودة في سوفوكليس. عندما نتخيل هذه البدائل، نفكر في شيء غير موجود. ما فعله أوديب كان حقيقة واقعة، كما يحدث للجميع، إلى الأبد. الحقيقي هو هذا: تنفيذ الأوراكل، مصير ليس سوى حقيقة واقعة، لا يوجد أي احتمال خارج الواقع. قال هنري برجسون في مقدمته للميتافيزيقيا، «نعتقد أننا نفكر في شيء بفضل هذا الغموض». نعم ولكن هناك ألف صيغة! فأي واحدة منها؟ فالممكن لا يصبح متاحا الا عندما يصبح حقيقيا.
■ أليس هذا مثل قول إن كل شيء مكتوب مسبقا، وأنه ليس لدينا دور لنلعبه في العالم؟
□ ليس لدينا دور لنلعبه، الواقع هو الشيء الوحيد الذي لم يتمكن الإنسان من التعود عليه، يشعر وكأنه لم يستشر. ما الذي نفعله هنا؟ وماذا يعني هذا لنا؟ ليس لديّ تصور للواقع، في الأساس. ربما هذا هو السبب في أن الناس الذين يقولون إنني لست فيلسوفا على حق. لو كنت فيلسوفًا، لكنت أتناول الفلسفة التي تركها كانط. من المحتمل أن المشاكل الفلسفية المزعومة لا تهمني على الإطلاق. ما يهمني هو السلوك البشري. لماذا أبصق أو لا أبصق، عندما يدغدغ الإدراك البشري أنفنا، هذه هي المشكلة التي توجه تفكيري. لكن، بالمناسبة، ما هي الفلسفة؟ هناك فقط مارتن هايدغر، لإجابتك دائما، بأنها التغلب على الاختلاف الأنطولوجي والانتزاع من نسيان التواجد، لكن كيف يكون هذا؟ هذا الذي لم أفهمه أبدا.
■ ماذا تعني لك «الموافقة على الواقع» في الحياة اليومية؟ هل تفعل ذلك بنفسك؟
□ نحن نوافق فقط على الواقع في المناسبات العظيمة، عندما تكون هناك عاطفة شديدة أو مشكلة خطيرة جدا يتعين مواجهتها. هذا يحدث فقط ثلاث أو أربع مرات في حياتنا. مثلا عندما أضرب أصابعي بمطرقة، لا أوافق على الحقيقة مطلقًا وأصرخ «اللعنة».

٭ بتصرف عن المجلة الفرنسية Sciences Humaines العدد (321).

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!