قبعات فرنسوا ميتيران

تداعى عدد من أقطاب الحزب الاشتراكي الفرنسي، وذهب أيضاً الرئيس إيمانويل ماكرون غير المحسوب عليهم رسمياً، إلى مدينة جارناك حيث وُلد ويُدفن الرئيس الأسبق فرنسوا ميتيران (1916 ــ 1996) في مناسبة مرور 25 سنة على وفاته، التي صادفت يوم 8 من كانون الثاني (يناير) الجاري. كانت مشاركة ماكرون لافتة، لاعتبار أوّل شكلي هو أنه «غريب» […]

قبعات فرنسوا ميتيران

[wpcc-script type=”e5d64a54cce5ce8f42d99dc8-text/javascript”]

تداعى عدد من أقطاب الحزب الاشتراكي الفرنسي، وذهب أيضاً الرئيس إيمانويل ماكرون غير المحسوب عليهم رسمياً، إلى مدينة جارناك حيث وُلد ويُدفن الرئيس الأسبق فرنسوا ميتيران (1916 ــ 1996) في مناسبة مرور 25 سنة على وفاته، التي صادفت يوم 8 من كانون الثاني (يناير) الجاري. كانت مشاركة ماكرون لافتة، لاعتبار أوّل شكلي هو أنه «غريب» على نحو ما، عن الرعيل؛ لكنّ البعض رأى على العكس، كما هو يقيني شخصياً، أنّ المسار الليبرالي الذي اعتمده ماكرون ليس غريباً تماماً من النهج الذي اتخذه ميتيران نفسه، في ولايته الثانية بصفة خاصة.
غير أنّ الاحتفاء بالذكرى يتجاوز هذه الحال إلى طراز من الإحياء العابر للحساسيات السياسية والأيديولوجية في فرنسا المعاصرة، والأرجح أنه يصبّ في مسرى أوسع بكثير يخصّ شخصية الرجل نفسه؛ العابر لتلك الحساسيات، الأعرض منها في جوانب كثيرة؛ والأدنى، وهو الأهمّ، إلى تمثيل قسط غير قليل من خيوطها التي قد تلوح للوهلة الأولى متناقضة متعارضة. هذا رجل، في محاسنه مثل مساوئه، جسّد «غوامض وتناقضات أمّة تأسست هويتها الحديثة على رفض عنيد للتطابق مع المنظومة الأنغلو ــ أمريكية. لكنه الذي غيّر فرنسا بعمق أكثر من أيّ سابقيه الراهنين، حتى أكثر من منافسه الكبير شارل دوغول كما يساجل البعض».
هذا رأي فيليب شورت، أحد أفضل كتّاب سيرة ميتيران خارج نطاق المؤلفات الفرنسية، وصاحب سيرتَين ليستا أقلّ تميّزاً عن بول بوت وماو تسي تونغ؛ إذْ يميل غالباً إلى وضع الوقائع السياسية في خلفيات إنسانية ونفسية غير مألوفة أو غير منتظَرة، تكتسب مصداقيتها من عمل المؤلف أمداً طويلاً كمراسل لإذاعة الـBBC في فرنسا. وفي كتابه هذا، المعنون «ميتيران: دراسة في الالتباس» يتوقف شورت عند جملة متشابكة من الالتباسات التي اقترنت بشخصية ميتيران: قائد في حركة المقاومة خلال الحرب، لكنه كُرّم لخدمات قدّمها لحكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال؛ مغازل لليمين المتطرف، لكنه دخل إلى البرلمان بدعم من المحافظين والكنيسة الكاثوليكية، قبل أن يصبح زعيم اليسار بلا منازع؛ وكان وزير العدل الذي تغاضى عن جرائم بول أوساريس، الجنرال الفرنسي وأحد كبار جلاّدي الشعب الجزائري؛ وأدخل الشيوعيين إلى الحكومة خلال رئاسته الأولى، قبل أن يعمل على تخريبهم من الداخل؛ وفي غضون ذلك كلّه، وجد الكثير من الوقت لغرامياته هنا وهناك، وخلّف ابنة من علاقة سرّية، وترك كتاباً كاملاً في رسائل الغرام…
على صعيد آخر، كما سيساجل أنصاره، هذا هو الرجل الذي ألغى عقوبة الإعدام في فرنسا، واختصر ساعات العمل ليوفّر أسبوع إجازة خامساً مدفوعاً، وخلّف وراءه عدداً من الأوابد المعمارية شملت دار الأوبرا الجديدة (في موقع سجن الباستيل!) وتوسيع متحف اللوفر، وبناء قوس النصر الثالث… لكن، سوف يردّ خصومه على الفور: إنه الرئيس المهووس بالتنصّت على الصحافيين (وممثلات السينما أيضاً!)ثمّ إغراق السفينة «راينبو واريير» خلال الحرب التي شنّها ضدّ منظمة «السلام الأخضر» البيئية؛ والآمر بكتمان إصابته بسرطان البروستات؛ وسوى هذا من طرائق التستّر، كانت جديرة بالكرادلة في القرون الوسطى، وليس بديمقراطية راسخة، يحدث أيضاً أنها وريثة الثورة الفرنسية وعصور الأنوار!

هذا رجل، في محاسنه مثل مساوئه، جسّد غوامض وتناقضات أمّة تأسست هويتها الحديثة على رفض عنيد للتطابق مع المنظومة الأنغلو ــ أمريكية. ولكنه غيّر فرنسا بعمق أكثر من أيّ سابقيه الراهنين، حتى أكثر من منافسه الكبير شارل دوغول كما يساجل البعض

وفي استكمال بُعد آخر من شخصية الالتباس، التي يجوز أن تُطلق عليها تسمية التناقض بالطبع، هنالك انحيازه العريق إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ في مقابل أنه أوّل رئيس قوّة عظمى أوروبية تحدّث عن دولة فلسطينية مستقلة وهو على منبر الكنيست، أمام مناحيم بيغن وصقور الليكود؛ وكان أيضاً، بصفته هذه، أوّل من يستقبل ياسر عرفات في قصر الإليزيه.
والحال أنّ عقود «الجمهورية الخامسة» في فرنسا، وابتداءً من العام 1965 تحديداً، سجّلت عشرات الفضائح التي تبدأ من هرم السلطة الأعلى، في قصر الإليزيه الرئاسي، أو تنتهي إليه. وهي «قضايا» إذْ تفضّل الرطانة الفرنسية هذه المفردة بدل الفضائح، تشمل شؤوناً سياسية، داخلية أو خارجية؛ وأخرى أمنية، تطال شخصيات أو منظمات أو حكومات؛ وثالثة مالية، تتعدى قبول الرشوة إلى المقايضة بالنفوذ؛ ورابعة عاطفية وغرامية. غير أنّ ما ارتبط بشخصية ميتيران من هذه، وسواها، اتخذ أكثر من بُعد واحد خاصّ يجعلها، أسوة بصاحبها، أكثر خلوداً في الذاكرة، وربما أشدّ إلحاحاً على الحاضر؛ بدليل مشهد الاحتشاد الأخير في جارناك، وحديث ماكرون عن بقاء «إرث ميتيران» حيّاً على الدوام.
وبين طرائف المؤلفات الفرنسية الكثيرة التي عادت، وتعود، إلى شخص الرئيس الفرنسي الراحل وإرثه؛ أشير إلى رواية أنطوان لوران التي صدرت سنة 2012 بعنوان «قبعة ميتيران» وتروي عن الموظف المحاسب دانييل ميرسييه الذي كان يتعشى ذات يوم في مطعم صغير عندما فوجيء بأنّ ميتيران جالس إلى طاولة مجاورة. لكنّ الرئيس غادر وقد نسي قبعته، التي التقطها المحاسب على سبيل الذكرى، ولم يكن يعلم أنه التقط معها طلسماً سوف يقلب حياته رأساً على عقب، إلى درجة اختراق سرّ السلطة الأعلى!
وهيهات، في القياس الافتراضي، أن تُحصى القبعات الفعلية أو الاستيهامية التي حامت فوق رؤوس المحتفين بذكرى ميتيران؛ وكم من ألغاز السلطة دارت في الرؤوس، واستعصت أو وجدت سبيلها إلى الحلّ!

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!