كريستيان بولتانسكي.. الفنان الذي يحتفي بالغياب

باريس ـ «القدس العربي»: يرى كريستيان بولتانسكي، الفنان التشكيلي الفرنسي المولود في باريس عام 1944، أن الفن ليس خطابًا زائدًا عن الحاجة يمكن أن تقف وظيفتُه عند حدود البهرجة والتظاهر الجمالي، وهو أيضًا ليس خطابًا في السعادة والمتعة فحسبُ، وإنما هو خطابٌ خطيرٌ يكشف عن حيرةِ الإنسان وهو يتأرجح بين الوجود والعدم، ولا يُخفي بولتانسكي […]

كريستيان بولتانسكي.. الفنان الذي يحتفي بالغياب

[wpcc-script type=”05b5e126d632be3d369dc64d-text/javascript”]

باريس ـ «القدس العربي»: يرى كريستيان بولتانسكي، الفنان التشكيلي الفرنسي المولود في باريس عام 1944، أن الفن ليس خطابًا زائدًا عن الحاجة يمكن أن تقف وظيفتُه عند حدود البهرجة والتظاهر الجمالي، وهو أيضًا ليس خطابًا في السعادة والمتعة فحسبُ، وإنما هو خطابٌ خطيرٌ يكشف عن حيرةِ الإنسان وهو يتأرجح بين الوجود والعدم، ولا يُخفي بولتانسكي حقيقةَ أن أغلب الفن المعاصر قد تخلى عن مهامه الوجودية، وصار لا يزيد عن كونه فعلا تجاريا خاضعا لشروط المُضاربة، ولأخلاق العرض والطلب.

الإقامة في الغيابِ

في حديثه إلى الصحافة الفرنسية خلال افتتاح معرضه الاستعادي في مركز بومبيدو في باريس خلال الفترة الممتدة من 13 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 16 مارس/آذار المقبل، قال بولتانسكي إنه مهتم في أعماله الفنية بثيمة الغياب، ذلك أن كل شيءٍ من حوله إنما هو مستودَعُ ذكرياتٍ مسكونٌ بحكايا الغائبين، و»هم أولئك المجهولون الذين ليست لهم هُوية واضحة، وأعتقد أن كل واحد منا إنما هو كائن فريدٌ، ومهم للغاية، وما الناس إلا معجزةٌ في هذا الوجودِ، ومن ثمة فهم يستأهلون أن أستدعيهم في أعمالي وأحتفي بهم، إن للفن شيئًا رائعًا، وهو أنه يُبيح لنا أن نستخدم ما هو سلبي في ذاته لنخلق منه الإيجابي العام، وهذه الميزة هي التي تصنع المسافة بين الشيء ومحنتِه الذاتية، وبذلك يكون الفن الفعلَ الأكثر فردانيةً وعالميةً في الآن نفسه». ويُضيف قوله إن الفن الذي لا ينتبه لهشاشةِ الكائن البشري، ولا يُمجدُ فيه تجربةَ غيابِه، ويتناسى أن يرى في حتميةِ فنائه روعةَ الوجود ذاته، إنما هو فن سطحي لا يعول عليه. إن الإنسان بالنسبة إلى هذا الفنان مَنْجمُ تجربة ومعاناة يحتاج إلى حس فني ليحفر أعماقه، ويحرر ما فيه من معانٍ مطموسةٍ، وفي هذا الشأن يقول إن الإنسان متى بلغ ستين عاما صار أثرًا من آثاره الفنية، بل صار مُتْحفَ ذكريات، وأسطورةً حياتيةً تصلح لأن تكون مادةً للتفكير الفني.

محاربة النسيان

عُرِفَ الفنان كريستيان بولتانسكي بتجريبه أنواعًا من الفن عديدة كاللوحة الزيتية، والنحت، وديكور السينما، وقد اختص منذ مدة طويلة في التركيبات البصرية التي يُعيد بها بناء لحظات من حياة الناس، عبر منح أشيائهم المُهمَلة حضورًا متخيلاً (الصور القديمة، والأثاث المنزلي، والملابس، والكتب، والمُذكرات الشخصية، ومقاطع الفيديو…)، ذلك أنه يخلق بين تلك المهمَلاتِ علائق طارئة وجديدة، تتكشف فيها خزائنُ لاوعي الناس، وسردياتُ طفولتهم بما فيها من لذائذ وانتصارات، وهزائم ومخاوف وغياب، ومن ثمة فهو لا يعمل على إحياء الغائبين، على حد قوله، وإنما هو يسلط الضوء على ألمِ غيابهم ذاتِه. ويعترف بولتانسكي بأنه واعٍ بحتمية إخفاقه الفني في محاربة النسيان والغياب، فما محاولتُنا إحياءَ ذكرى كائن ما، إلا شهادةٌ منا على غيابه، ويذهب في ذلك إلى القول: «لا أفهم لِمَ يرفض الواحدُ منا اليومَ فكرة أن يصير عجوزًا، نحن اليوم نرفض فكرة الشيخوخة والموت، ولا نعترف بأن الموت جزء من الحياة. في ما مضى كانت مراسم الدفن مناسبة للاجتماع والتحدث في أمور الدنيا، اليوم صرنا لا نجرؤ حتى على إعلان الحِداد، وكأننا نخشى الموت وندفعه بعيدا عنا». ويرد الفنان كريستيان بولتانسكي بلوغَه هذه الحقائقَ إلى طبيعة تجربته الشخصية في الحياة وفي الفن ذاته، فقد حاول في بداياته الفنية أن يُحافظ في رسومه على صفاء الطفل الذي فيه، وأن يحميه من الخوف والتشرد والقلق، فكانت رسوماته في تلك الفترة موغلة في الحُلم، وفيها استدعاء للبراءة والحُب. وحين أصبح بالغًا أدرك أن العالَم الطفولي قد انتهى، بل إنه صار يحمل في داخله طفلاً ميْتًا، ولذلك حاول إحياء ذكرى هذا الطفل في أعماله الفنية، مع الحرصِ فيها على البحث عن معنى الوجود ذاته، ومن ثمة هو يرى أن أعماله لا تستهوي جامعي التحف، وإنما هي أعمال مؤقتة ما إنْ تكتمل حتى يتهددها النسيانُ.

التلاعب بالحُزن

يعترف الفنان كريستيان بولتانسكي بأنه قضى حياته في خلق وهمِ النجاة من الموت، والنجاة من النسيان، ولكنه وقف في كل ذلك على حقيقة أن الفن في معنى من معانيه الكبرى إنما هو فشلٌ محضٌ، «فإن تكون إنسانًا ـ على حد قوله- فذاك يعني أن تُعبر عن غضبك، وأن تُبدعَ، وأن تُحارب مصيرَك، وفي النهاية، عليك أن تُقِر بهزيمتك أمام قدرك… تكمن جمالية الفن في كونه شبيهًا بالتحليل النفسي الذاتي، أيْ إن الفنان وهو يرسم أحزانه يُبِعُدها عنه ويتلافاها، توجد في بداية حياة كل فنان صدمة حزن قوية، وبقدر ما يكشف عنها للناس في أعماله يتعايش معها، وبذلك يهرب من سوء حظه الذي ستزداد فظاعته لو بقي حزنُه أمرًا طي الكتمان. أعتقد أن الفن يشفي. إنه يخلق مسافة بيننا وبين أحزاننا في ما يشبه الحيلة: الفن يُنسينا الحزن، ويجعلنا نتلاعب به، ويمنحنا القدرة على النظر إليه كما لو أنه حزنٌ غير شخصي».
لقد ظل الفنان كريستيان بولتانسكي، ولمدة نصف قرن تقريبا، يعمل في تركيباته البصرية على تشبيك الذاكرة الفردية بالذاكرة الجماعية، وعلى تعميق التأمل في الطقوس والرمـــوز الاجتماعية، وبذلك نلفيه يُمــــثل في المشهد الفني الفرنسي والأوروبي حالةَ يقظةٍ ضد أوهام الثقافــــة وخيبات أمل المثقفين.

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!