موسيقى فريد الأطرش: الاطمئنان إلى شرقيتنا والثقة في الفن العربي الخالص

■ بعد أن غادر السويداء في سوريا، وأتى إلى مصر طفلاً، احتفظ فريد الأطرش في داخله بالجمال الذي كون مخيلته الأولى والأساسية التي اعتمد عليها فنه بدرجة كبيرة طوال حياته، فهو وإن فارق أحضان بلاده مكرهاً، فإن جمالها لم يفارق نفسه قط وانطبع في روحه، فكان فنه فطرياً طبيعياً إلى أقصى حد، وكم كانت مصر […]

Share your love

موسيقى فريد الأطرش: الاطمئنان إلى شرقيتنا والثقة في الفن العربي الخالص

[wpcc-script type=”e8eaed5d51c68cdfa1a95a64-text/javascript”]

■ بعد أن غادر السويداء في سوريا، وأتى إلى مصر طفلاً، احتفظ فريد الأطرش في داخله بالجمال الذي كون مخيلته الأولى والأساسية التي اعتمد عليها فنه بدرجة كبيرة طوال حياته، فهو وإن فارق أحضان بلاده مكرهاً، فإن جمالها لم يفارق نفسه قط وانطبع في روحه، فكان فنه فطرياً طبيعياً إلى أقصى حد، وكم كانت مصر محظوظة بهذه الموهبة السماوية، التي أمطرتها بالموسيقى والغناء والفرح، وأضافت إليها روحاً شرقية عربية صافية، وكان من حظ اللهجة المصرية أيضاً أن تجري على لسانه ممتزجة بتلاحينه وإيقاعاته، التي عندما نستمع إليها نطمئن تماماً إلى شرقيتنا، ونؤمن بوجود الفن العربي الخالص، وهو الإحساس الذي لا يمنحنا إياه سوى فريد الأطرش ولا يكتمل أبداً لدى أي موسيقار أو مطرب سواه، ويمكن التحدث بثقة تامة عن مدى التفوق الفني واكتمال جماليات الموسيقى، والقدرة على المنافسة عالمياً، فإن أفلام فريد الأطرش الغنائية أجمل بكثير من أفلام التينور لويس ماريانو الفرنسية، في الأربعينيات على سبيل المثال، وفيلم «رسالة من امرأة مجهولة» أرقى فنياً وموسيقياً من النسخة الأمريكية بالعنوان نفسه، وأكثر أدبية وتعبيراً عن رواية الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ التي عالجها الفيلم درامياً.
لم تساعده الأقدار في مصر كما لم تساعده في سوريا، فكان على الطفل الصغير أن يعمل ليتمكن من إعالة أسرته، وإكمال تعليمه الفرنسي، وعندما نتأمل شخصية فريد الأطرش ندرك أن كريم النفس يبقى كريماً، ولا يذل أبداً مهما حاصرته أسباب الذل، على العكس من حقير النفس الذي يظل حقيراً، وإن أوتي الملك والإمارة والرئاسة، ولا تستطيع تلال الأموال وجبال الذهب أن تستر حقارته، وعلى أرض مصر ذاق مرارة فجيعته الكبرى وهول الفقد العظيم لشقيقته وصديقته وتوأمه الفني المطربة أسمهان، الفاتنة صوتاً وشكلاً، أما أسخف ما تعرض له في مصر، فكان محاولة التقليل من قدره بوضعه في مقارنة مع من هو أقل منه موهبة، وليس موسيقاراً على الأقل، لكي تصح المقارنة، والحق أن هؤلاء الذين جعلوا من لا يكافئه بأي حال ندا له، لم يلحقوا به وبجمهوره الأذى النفسي وحسب، وإنما شوهوا المفاهيم النقدية وأضروا بالفن، فأي مستمع لديه حس وشعور وذائقة يدرك أن فريد الأطرش لا مثيل له، وإن كان لابد من المقارنة فإنه لا يقارن إلا بالموسيقار محمد عبد الوهاب، كما أننا لا نستطيع أن نفهم أبداً إصرار وتعمد كثير من نقاد وصحافيي عصره على إلصاق نقص ما بمسيرته الفنية، لمجرد أن مطربة لم تغن لحناً من ألحانه، وكأنه بذلك لم يحصل على «ختم النسر»، وبكل أسف لا يزال البعض يكرر هذه الأسطوانة البغيضة السخيفة المملة والخاطئة تماماً، فما يذكرونه كنقص وشرف لم ينله، كان خيراً عظيماً حفظ موسيقاه من الكثير الذي أصاب موسيقى محمد عبد الوهاب.

لا تنحصر عبقرية فريد الأطرش في آلة العود، رغم أنه أمهر من أمسك بمضرابه وأطلق أنغامه المنسجمة الموزونة، لكنه ليس عازف عود أو مطربا وحسب، هو موسيقار قبل كل شيء

ونتعجب أيضاً ممن يصف فريد الأطرش بالمطرب الحزين، كيف لم يشعر بهذا الكم الهائل من الفرح في أغنياته، وكيف لم يهتز جسده طرباً على إيقاعاته الراقصة، وماذا عن أغنياته المصرية الخالصة، أو اللون البلدي الذي برع فيه أكثر من المصريين، فلا نجد لدى غيره من المطربين والموسيقيين أغنيات مثل «خليها على الله» و»ما قال لي وقلت له» و «يا مقبل يوم وليلة»، وتدهشنا قدرته على التلوين الموسيقي في عالمه الفني الشاسع، فمن اللون البلدي المصري إلى اللون الكلاسيكي شديد الرقي والتعقيد في أغنية «سهرت طول الليل»، إلى اللون الشامي والموال وإيقاعات الدبكة في أغنيات مثل «بتؤمر ع الراس وع العين» و»لكتب عوراق الشجر» و «فوق غصنك يا لمونة»، وأغنيات لحنها لغيره من المطربين مثل «يا دلع دلع» للفنانة صباح و «هزي يا نواعم» للفنان عصام رجي، يُظهر تفوقاً وانسجاماً مع كل لون، ولا يعود ذلك إلى ثنائية الهوية لديه، وأنه سوري مصري، بقدر ما يعود إلى رؤية وذهنية مختلفة، ونفسية مختلفة أيضاً، فقد كان فريد الأطرش الفنان الأكثر انفتاحاً وجرأة وخلواً من التعقيدات، ولم يكن يخشى شيئاً، ولا يخضع لمن يقول بأنه يجب أن يترفع عن اللون البلدي والأغنيات الإيقاعية، ويستنكف عن الغناء إلى جوار راقصة شرقية في أفلامه، وإذا فعل فيجب أن ترتدي فستاناً لا بدلة رقص، وكان يذهب حيث تذهب روحه وفنه، مخلصاً طوال الوقت لشرقيته وعروبته، محباً لجميع بلاده العربية بلا مصانعة أو تكلف، فقدم في أوبريت بساط الريح إيقاعات ولهجات أمته العربية من مشرقها إلى مغربها، ومن الجدير بالذكر أن ذلك كان في الأربعينيات قبل أن يظهر «مخترع الأمة العربية» عام 1952 .
وكما كان موهوباً في التلوين الموسيقي وإظهار تمكنه من سمات كل لون، كانت لديه القدرة على خلق ذلك النوع من الأغنيات الذي يعبر عن المزيج السحري بين مصر والشام في نفسه ووجدانه، كما في أغنية «يا ويلي من حبه يا ويلي» التي عندما نستمع إليها لا نستطيع أن نقرر هل هي أغنية مصرية أم أغنية شامية، وفي هذه الحيرة تكمن متعة فنية كبرى.
وعندما بدأت مصر تلفظ الجمال وتميته رويداً رويداً، فارق فريد الأطرش وطنه مكرهاً مرة أخرى، وذهب إلى لبنان بحثاً عن الحرية والفن والجمال، وكم كان قاسياً أن يترك بيته الذي عاش فيه لسنوات طويلة، وأن يرى التحول الذي أصاب مصر، والظلمات التي خيمت عليها، وفي حوار له مع الإعلامي اللبناني رياض شرارة، الذي قال له إنه كان ملك الأفلام الاستعراضية، وبتوقفه عنها اختفى هذا النوع من السينما العربية، فأطلق فريد ضحكة لطيفة عالية ربما كانت في حقيقتها بكاء، وقال: «لما كنت بعمل أفلام استعراضية، كنت ملك الأفلام، كان فيه ملكية، دلوقتي جمهورية، فشيلنا اللقب حتى، مبقيناش ملوك»، ومن المحزن والمؤثر أن نستمع إلى طبيب القلب المصري الدكتور عوض إبراهيم، في حوار ضمن حلقة الموسيقار محمد عبد الوهاب لبرنامج النادي الدولي، لأنه كان طبيبه الخاص، وهو يتحدث عن فريد الأطرش بعد أن عاد إلى مصر في السبعينيات، وإصراره على الغناء رغم تحذيرات الأطباء في لندن وبيروت بسبب حالة قلبه الضعيفة، ويروي الدكتور عوض أنه قال له: «مصر وحشتني، بقالي كتير ما غنيتش فيها، لازم أغني» وظل الطبيب متأهباً طوال الحفل في سينما قصر النيل، متخوفاً من سقوطه في كل لحظة، بينما في الخارج تنتظر سيارة الإسعاف المجهزة بإمكانيات الإنعاش، وأبدى الطبيب تعجبه من تألقه في الغناء، وتلك الطاقة الفنية الكبيرة التي تغلبت على المرض وجعلت الحفل يمر بسلام.
لا تنحصر عبقرية فريد الأطرش في آلة العود، رغم أنه أمهر من أمسك بمضرابه وأطلق أنغامه المنسجمة الموزونة، لكنه ليس عازف عود أو مطربا وحسب، هو موسيقار قبل كل شيء، والموسيقى هي أول ما يجب أن نلتفت إليه ونتحدث عنه، فهي وسيلته الأولى في التعبير قبل الغناء، ومن الصعب جداً الحديث عن كافة جمالياتها، لكن من أهم ما يميزها، قوة «الميلودي» وهو الجانب الغنائي في الموسيقى، وقوة «الإيقاع» وهو الجانب الراقص في الموسيقى، بالإضـــــافة إلى القدرة على خلق المزاج الخاص والثيمات الموسيقية وتطويرها بأشكال مخــــتلفة داخل الأغنية الواحدة، والافتتاحيات والمقدمات الموسيقية الباهـــــرة، والصدق الفني والطابع المستقل الذي لا تخطئه الأذن أبداً، فلا صعوبة في التعرف على موسيقاه منذ أول نغمة، والمهارة في توظــــيف الأوركسترا الكاملة وآلات كالبيانو والكلارينيت والأوبوا بجمال بالغ، والأهم من كل ما سبق هو قوة التأثـــير الفــــني الذي هو سر الخلود.

٭ كاتبة مصرية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!