كريستي ضدّ بوارو: اللغز أم الأحجية؟

في موقع CrimeReads المتخصص في الرواية البوليسية وأدب التحقيق في الجرائم، تكتب كيت واينبرغ عن المفارقة الكبرى في حياة الروائية البريطانية الأشهر أغاثا كريستي (1890 -1976): أنها سيدة حلّ الألغاز، بعد إحكام حبائلها وخفاياها وألاعيبها، التي رحلت دون أن تميط اللثام عن اللغز الفعلي الوحيد الذي اكتنف حياتها، ويُرجّح أنها كانت صانعته عن سابق قصد. […]

كريستي ضدّ بوارو: اللغز أم الأحجية؟

[wpcc-script type=”19ee8e302b9e7413b5fffd81-text/javascript”]

في موقع CrimeReads المتخصص في الرواية البوليسية وأدب التحقيق في الجرائم، تكتب كيت واينبرغ عن المفارقة الكبرى في حياة الروائية البريطانية الأشهر أغاثا كريستي (1890 -1976): أنها سيدة حلّ الألغاز، بعد إحكام حبائلها وخفاياها وألاعيبها، التي رحلت دون أن تميط اللثام عن اللغز الفعلي الوحيد الذي اكتنف حياتها، ويُرجّح أنها كانت صانعته عن سابق قصد. ففي مساء 3 كانون الأول (ديسمبر) 1926 سُمعت تتشاجر مع زوجها، ثمّ غادرت البيت، وفي الصباح التالي عُثر على سيارتها جاثمة على حافة، المصابيح مضاءة، والمعطف ملقى على المقعد الخلفي، مع قارورة سمّ. استنُفرت أجهزة الشرطة، أسوة بالصحافة والمعجبين والمحققين الهواة؛ في غمرة تكهنات شتى وسيناريوهات عديدة. بعد 11 يوماً، ظهرت كريستي في في أحد فنادق منطقة هاروغيت، وزعمت أنها فقدت الذاكرة، ثم امتنعت بعدئذ عن التطرق إلى تفاصيل الواقعة حتى في سيرتها الذاتية التي نُشرت بعد رحيلها.

كأنّ معركة من طراز بالغ الخصوصية تدور رحاها بين لغز الكاتبة الحاذقة وأحجية المحقق الأريب؛ وبين النصّ الأدبي المتنامي في كنف المخيّلة، والتحقيق البوليسي الذي تتفكك عقده منطقياً ومنهجياً

تساجل واينبرغ، وهي بدورها تكتب الرواية البوليسة، بأنّ حلّ لغز ما يحيله إلى محض أحجية، تُحلّ بعد جهد شاقّ أو يسير، ثمّ تُوضع جانباً؛ على نقيض لغز معلّق، غامض وممتنع عن الكشف، حيث السؤال لا يظلّ قائماً ماثلاً فقط، بل يستولد المزيد من أسئلة قد تتعالق مع بعضها أو تتناقض أو تتكامل. والقتلة في روايات كريستي لديهم دوافع على الدوام، تتابع واينبرغ، وأمّا في الحياة الفعلية فالدافع مراوغ غالباً، واللغز في ذهن ما – ليس حول الـ«لماذا؟» بل حول الـ«كيف؟» – يندر أن يكون جلياً أو في متناول العقل؛ تماماً على غرار لغز اختفاء كريستي نفسها. وعلى نحو أو آخر، تبدو ديمومة لغز حياة «سيّدة الغموض» على صلة بحقيقة أنها، هي التي اقترحت على الملايين من البشر سلسلة حلول مدهشة لألغاز بدت مستغلقة مستعصية، عاشت ورحلت مجهولة اللغز، فأبقت حياتها موضع تكهّن وتخمين وتنبّؤ و… «تَحَازُرْ»!
في جانب آخر من مناخات هذه الديمومة أعلنت دار النشر هاربر كولنز عن قرب إصدار كتاب «بوارو أغاثا كريستي: المحقق الأعظم في العالم» حيث يرصد مارك ألدريج حياة المحقق الشهير هرقل بوارو منذ ظهوره في الرواية الأولى «قضية ستايلز الغامضة» عام 1920 وحتى فيلم «موت على النيل» في سنة 2020؛ وكيف تطوّر مراراً على يد كريستي، وجابهت في تطويره صعوبات كثيرة؛ وكم أثار من تحديات أمام الممثلين الذين حاولوا تجسيد شخصيته على المسرح أو في السينما والتلفزة؛ ولماذا يواصل التمتع بجماهيرية قصوى في أربع رياح الأرض، بل ويبدو أحياناً مستقلاً في هذا عن جماهيرية خالقته كريستي نفسها. كأنّ معركة من طراز بالغ الخصوصية، شديدة الغرابة والندرة، تدور رحاها بين لغز الكاتبة الحاذقة وأحجية المحقق الأريب؛ وبين النصّ الأدبي المتنامي في كنف المخيّلة، والتحقيق البوليسي الذي تتفكك عقده منطقياً ومنهجياً.
وبعد أيام قليلة سوف تحلّ الذكرى الـ 130 لولادة كريستي (1890ـ 1976) وللمرء أن ينتظر عشرات المهرجانات والملتقيات والندوات والأنشطة التي ستتصف بالشغف المعتاد، واجتذاب الناس من مختلف الأعمار والمشارب والأذواق والمِهَن. وليس هذا الاحتفاء كثيراً على مؤلفة أكثر من 90 كتاباً بين رواية بوليسية وعاطفية وأدب رحلات ومذكّرات، بينها العمل المسرحي الفريد «مصيدة الفئران» الذي كسر الرقم القياسي في العرض على مدار التاريخ؛ والتي تحتلّ المرتبة الثالثة في أعلى المبيعات، بعد وليام شكسبير والكتاب المقدّس. وهي أيضاً، إلى ذلك كلّه، صاحبة طرائق فريدة في صناعة التشويق والحبكة، تسيّد القراءة الشعبية جيلاً بعد جيل، دون أن يُفقده الزمن بريقه وسحره.
والحال أنّ كريستي لم تمتلك أسلوباً أدبياً فائقاً أو ذا خصوصية ملحوظة ، خاصة وأنها عاشت وكتبت في عصر فرجينيا وولف وغرترود شتاين؛ ولم تأبه يوماً بتقديم شخصية روائية ذات سمات إنسانية كونية جديرة بالخلود، بل إنها لم تسعَ مرّة واحدة إلى الغوص في أعماق أيّ من شخصياتها. أنها لم تتقصّد سوى تصميم جريمة قتل، وحبك خيوطها وعناصرها، وإلقاء ظلال الشكّ على المشتبه بهم هنا وهناك، ثمّ تضليل القارىء من صفحة إلى أخرى حول الفاعل، وتصعيد التشويق إلى درجة الصفر من القدرة على تمييز الحقيقة. وأخيراً، تقديم القاتل (أو القتلة، أحياناً) على طبق من أدلة بيّنة وبراهين ساطعة مرّت قبلئذ على القارىء المنشغل، دون أن يدركها أو يدخلها في سياقاتها الصحيحة.
وليس تلهّف القارىء على معرفة اسم القاتل، في ازدحام البدائل والتوازيات والأشباه، سوى بحث عن الهوية في نهاية المطاف. وفي مقدّمة معمّقة لنخبة من القصص البوليسية وروايات الرعب والغموض، تقترح الروائية البريطانية دوروثي سايرز التعريف الكلاسيكي الأكثر أهمية لهذا النوع من الكتابة: الرواية البوليسية جزء من أدب الهروب وليس أدب التعبير، وهي لا تهدف إلى (لأنها بالفرضية لا تستطيع) بلوغ ذُرى التعبير الأدبي بمعناه المألوف. ومع ذلك، أو ربما بسبب من ذلك جوهرياً، فإنّ الملايين يُقبلون على قراءة كريستي حتى حين لا يكون البحث عن هوية القاتل هو المأرب الأوّل؛ بل يكون احتدام الصراع بين اللغز والأحجية هو تمرين القراءة الأبرز، ومتعة الحبكة والعقد والحلّ أيضاً.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!