كيف جعلنا الإرهاق الناجم عن الجائحة غير اجتماعيين؟

في ظل وجود الكثير من متطلبات الحياة التي تسلب انتباهنا، جلَّ ما نتوق إليه عندما نجد بعض الوقت لأنفسنا هو التنعم بالقليل من السلام والهدوء، لماذا ننغلق على أنفسنا إذاً، مع أننا بأمسِّ الحاجة إلى بعضنا بعضاً؟ ربما إذا تعمَّقنا في جذور سلوكنا الاجتماعي في أثناء الجائحة، فسنكون أكثر قدرة على مسامحة أنفسنا والأشخاص من حولنا لانزوائهم. من خلال هذه المقالة سوف ننقاش كيف جعلنا الإرهاق الناجم عن الجائحة غير اجتماعيين.

جلست آشوورث لتكتب قصيدة قصيرة عمَّا تشعر به، ثم نشرَتها على صفحتها في “فيسبوك” (Facebook)؛ فقد انتشرت القصيدة على نطاق واسع، وحصدت أكثر من 7500 تعليق؛ إذ تواصل الناس في جميع أنحاء العالم معها لشكرها على التعبير عما كانوا يشعرون به، تقول القصيدة:

  • لقد أصابنا الإنهاك، ولم نَعُد نقوى على قول أي شيء.
  • لقد سئمنا من قول: “أفتقدك” و”لم أعُد أطيق الانتظار حتى ينتهي الأمر”؛ لذا ترانا نؤثِر الصمت، ونُطأطئ رؤوسنا، ليمضي يومنا بسلام.

تتحدث “آشوورث” في قصيدتها عن أمر حدث في بداية العام – أي بعد الانشغال بالإجازات وقبل توفر اللقاحات – إذ انغلق الكثير منا على نفسه؛ وهذا قلل من التفاعل الاجتماعي.

وفقاً لـ “جيليان ساندستروم” (Gillian Sandstrom) عالمة النفس الاجتماعي في “جامعة إسيكس” (University of Essex)، أصبح الإغلاق أشد وطئاً على الناس مع مرور الوقت، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين تكيَّفوا جيداً في العام الماضي؛ ففي الولايات المتحدة، شهدت المعالجة النفسية “ليندسي أنتين” (Lindsey Antin) طاقة عملائها ونشاطهم الاجتماعي يتأرجح بين الارتفاع والانخفاض، اعتماداً على مقدار شعورهم بالأمل.

لماذا ننغلق على أنفسنا إذاً، مع أنَّنا بأمسِّ الحاجة إلى بعضنا بعضاً؟ ربما إذا تعمَّقنا في جذور سلوكنا الاجتماعي في أثناء الجائحة، فسنكون أكثر قدرة على مسامحة أنفسنا والأشخاص من حولنا لانزوائهم؛ فقد يساعدنا ذلك على العودة إلى سابق عهدنا في عالم ما بعد جائحة كورونا.

البؤس الذي سبَّبَته الجائحة:

لا يخفى عن أحد أنَّ الجائحة سبَّبت لنا المزيد من التوتر والوحدة والاكتئاب، ولكنَّ الأمر الذي غفل الجميع عنه هو كم دفعَتنا هذه الحالات النفسية إلى تجنب التفاعل مع الآخرين؛ فوفقاً للبحث، يجعلنا الشعور بالوحدة ننغلق على أنفسنا، بدلاً من حثنا على التواصل؛ إذ نشعر بأنَّنا لا نستحق علاقاتنا، ونخشى أن يحكم الناس علينا، أو لا يستمتعوا بعلاقاتهم معنا.

فالاكتئاب يستنزف طاقتنا ودوافعنا، ويؤثر في ثقتنا بأنفسنا، ويُصعِّب علينا القيام بالأمور التي من شأنها أن تساعد على تخفيف الاكتئاب، ومن ذلك التفاعل مع الآخرين.

وفقاً لـ “أنتين”، يشعر الناس المصابون بالاكتئاب غالباً بأنَّ ليس لديهم ما يتحدثون عنه عندما يتواصلون مع الآخرين، لا سيما إذا كانوا معزولين وغير نشطين، فهُم لا يعرفون دائماً ما الذي قد يثير اهتمام الآخر.

قد ينطبق الأمر ذاته على الكثيرين منا في أثناء الجائحة، فقد علقنا في المنزل، ولم نَعُد قادرين على تناول الطعام في الخارج أو الاستمتاع ببعض هواياتنا أو قضاء الإجازات، التي من شأنها أن تكون موضوعات مثيرة للاهتمام يمكن مشاركتها مع الآخرين.

توافق “جيليان” “ليندسي” في كلامها، مضيفة أنَّ الكثير منا ربما سئموا من الحديث عن كوفيد-19؛ إذ يركز بحثها على توقعات الناس وتجاربهم عن التفاعلات الاجتماعية، وتقترح أنَّنا نقلل من شأن متعة التفاعل مع الآخرين؛ فحينما نتحدث إلى شخص غريب، نقلق بشأن ما إذا كان سيحبُّنا ويستمتع بحديثنا، وبشأن قدرتنا على الاستمرار في الحديث؛ لذا ربما يقلق الناس بشأن الأمور ذاتها مع أصدقائهم أيضاً.

فقد نفكر في سرِّنا قائلين: “كان في إمكاني سرد ​​تلك القصة سرداً أفضل مما فعلت” أو “لماذا قلت ذلك؟ ماذا لو لم يفهموني، أو شعروا بالإهانة؟”؛ إذ هناك صوت كامن في رؤوسنا يجعلنا نحكم على أنفسنا طوال الوقت، وهو حكم سلبي.

إلى جانب الضغط الذي يشعر به بعض الأشخاص ليكونوا مثيرين للاهتمام، يشعر آخرون أيضاً بالضغط ليكونوا إيجابيين؛ ففي بداية الجائحة، اجتمع الكثير من الناس للتفاؤل، والأمل بأنَّنا قادرون على تجاوز الأمر؛ إذ طمأنَّا الأطفال والمسنين بأنَّ الأمور ستكون على ما يرام؛ ولكن بعد عام، لم يَعُد الحفاظ على هذه الروح الإيجابية أمراً سهلاً.

إنَّه لأمر مرهق أن تتصرف بمرح وتفاؤل باستمرار عندما لا تشعر بذلك، ولكن إن لم نشارك سوى الشكوى والتشاؤم والحزن، فسوف نقلق من أن نكون عبئاً على الآخرين، كان هذا بالتأكيد حال “دونا آشوورث”، التي سعت دائماً إلى رفع معنويات الناس من حولها وتشجيعهم؛ إذ تقول: “أعتقد أنَّه لم يَعُد أي شخص يملك أي شيء إيجابي ليقوله؛ لذا قرَّر الجميع الصمت لبعض الوقت”.

وبعد أن توقفنا عن مشاركة تلك الأفكار المرهِقة مع الآخرين، بتنا نتجنب التعامل معها مع أنفسنا أيضاً؛ إذ شعرنا بثقل الخسائر وانعدام اليقين الناجمَين عن الجائحة، إلى جانب المخاوف بشأن ما إذا كان أطفالنا سيتضررون، وغياب العدل في تقديم العلاج للمصابين؛ وهذا دفعنا إلى تجنُّب الناس كي لا نضطر إلى مواجهتهم.

تقول “آشوورث”: “لا أحد يرغب حقاً في التعمق في الموضوع أكثر من اللازم؛ وذلك لأنَّ الإجابات مخيبة للآمال للغاية”.

الإرهاق الناجم عن الجائحة:

حتى بالنسبة إلى بعضنا الذين لم يواجهوا القدر نفسه من الصعوبات، لم نَعُد نمتلك الوقت ونتمتع بالطاقة كما في السابق؛ فنحن مرهقون للغاية، ومن الطبيعي أن تتقلص دائرتنا الاجتماعية في الوقت الحالي، ونركز على أفراد عائلتنا وأصدقائنا المقربين فحسب.

ففي عام 2020، اضطر العديد من البالغين فجأة إلى تعليم أطفالهم في المنزل، أو دعم شركائهم الذين فقدوا وظائفهم، أو إقناع أقاربهم من كبار السن بالبقاء في المنزل وأخذ الجائحة على محمل الجد.

في الواقع، وخلال عام واحد فقط، فقَدَ ملايين الأشخاص حياتهم في جميع أنحاء العالم بسبب الجائحة، وعانى ملايين آخرون من إصابات حادة بفيروس كورونا، التي أثرت في عدد لا يحصى من الأشخاص الآخرين تأثيراً أرهقهم أشد إرهاق وآلمهم للغاية.

كنا نعلم جميعاً أنَّ الموت والمعاناة يختبئان خارج جدران منازلنا؛ إذ كانت كل شقة بمنزلة قارب نجاة صغير، تقول “جيليان ساندستروم”: “في بعض النواحي، علاقاتنا الوثيقة هي الأكثر إيجابية، ولكنَّها تكلِّفنا الكثير في الوقت ذاته؛ ذلك لأنَّهم الأشخاص الذين يجب أن نقف إلى جانبهم، ونتعامل معهم، وقد يكون هذا هو الحال مع أحبائنا وأعزائنا، فنحن نشعر بضرورة تقديم الدعم لهم في الوقت الحالي، وليست لدينا أيَّة طاقة متبقية لدعم أشخاص آخرين”.

يشبه الأمر إلى حدِّ ما الذي يحدث مع الآباء الجدد؛ فإنجاب أول طفل هو تجربة جديدة تدفعنا إلى البقاء في المنزل أكثر، وتحرمنا من النوم، كما يحدث خلال الجائحة حالياً، ويزداد تواصلنا مع الجيران، ويقل مع الأصدقاء.

في ظل وجود الكثير من متطلبات الحياة التي تسلب انتباهنا، جلَّ ما نتوق إليه عندما نجد بعض الوقت لأنفسنا هو التنعم بالقليل من السلام والهدوء، لكن لا يمكننا دائماً الحصول عليه بسبب وجودنا الدائم مع أفراد عائلتنا نتيجة الإغلاق.

الحاجة إلى العزلة:

وفقاً للبحث، يُعَدُّ انعدام القدرة على العزلة مشكلة حقيقية، تقول “فيرجينيا توماس” (Virginia Thomas) عالمة النفس: إنَّ الأشخاص الذين يفتقرون إلى العزلة، يمكن أن “ينتهي بهم الأمر بالشعور بالانزعاج أو الارتباك أو الإرهاق”؛ فهم أكثر توتراً وأقل رضى عن حياتهم.

لتجنُّب الوصول إلى الحالة هذه، قد يتشبث بعضنا بلحظات من العزلة، بدلاً من الرد على رسالة، أو الانضمام إلى محادثة عبر الإنترنت.

حتى ابن “ليندسي أنتين” البالغ من العمر ست سنوات كان يشعر بالأمر؛ ففي أحد الأيام، ذهبَت للاطمئنان عليه، ووجدَته يجلس وحيداً في الطابق العلوي، يأكل البسكويت ويقرأ كتاباً، فدعَته للجلوس معها في أثناء عملها؛ فتتذكر رده ضاحكة: “لا أريد ذلك، فأنا بحاجة إلى قضاء بعض الوقت وحدي”.

وحتى حينما تكون لدينا طاقة كافية للتواصل، تضغطنا الخيارات، ولا ترضينا في الكثير من الأحيان؛ إذ يتطلب قضاء الوقت مع أحدهم وجهاً لوجه وضع مخاطر ومحاسن ذلك في الحسبان؛ وذلك بناءً على سلوكات الشخص الآخر في أثناء الجائحة، وربما التحدث دون ارتياح عما إذا كان عليكما ارتداء كمامة، أو التباعد جسدياً، أو الالتقاء في الخارج.

لقد كان التفاعل الاجتماعي عبر الإنترنت ممتعاً وجديداً لبعض الوقت؛ إذ اكتشفنا منصات جديدة لمشاهدة الأفلام وممارسة الألعاب وحتى الرقص معاً دون أن نجتمع في الغرفة ذاتها؛ ولكنَّ الكثير منا منهكون للغاية الآن.

ووفقاً للباحثين، الإرهاق الناجم عن استخدام منصة “زووم” (Zoom) حقيقي؛ إذ ينتج ذلك عن حقيقة أنَّ معظم مكالمات الفيديو تشمل مستويات غير طبيعية من التواصل بالعين، والتشتيت الذي يسببه التحديق في صورتنا، وعدم القدرة على التحرك، وصعوبة فهم لغة جسد الناس.

تقول “ليندسي أنتين”: لقد سئمنا الخيارات المتاحة أمامنا؛ فلا وجود لحل مثالي؛ لذا لا نختار أحياناً أي حل على الإطلاق، وكتب المراسل “كيلسي بوريسن” (Kelsey Borresen) في صحيفة “هافينغتون بوست” (Huffington Post): “لا يرضينا قضاء الوقت مع أحبائنا افتراضياً بقدر لقائهم وجهاً لوجه؛ بل يتركنا نتوق أكثر إلى التواصل الحقيقي معهم”.

كما يمكن أن يحدث العكس أيضاً؛ فحينما تتكبد عناء تجهيز نفسك لمقابلة شخص ما في الخارج، وبالكاد تستطيع سماعه بسبب الكمامات والمسافة بينكما، تتمنى لو تواصلتَ معه عبر الهاتف بدلاً من ذلك.

تقريب المسافات فيما بيننا:

بعد مرور أكثر من شهر على كتابة “دونا آشوورث” لقصيدتها التي لاقت انتشاراً واسعاً، لاحظَت تغيراً في مزاج الناس؛ فتوفر اللقاحات حمَّس الكثيرين تجاه المستقبل، على الرغم من الإحباط الذي أصابنا مجدداً بسبب تمديد الإغلاق وتأجيل المهام في جداولنا الزمنية.

حينما ينتهي الحال هذا، لن تعود علاقاتنا – الافتراضية منها والبعيدة – إلى سابق عهدها على الفور؛ فحتى وجودك مع أشخاص آخرين سيكون أمراً مثيراً للقلق في البداية، تؤكد “جيليان ساندستروم” أنَّ مهاراتنا الاجتماعية ما تزال بحاجة إلى الممارسة؛ وذلك لأنَّها مهارات في نهاية الأمر، ولن تختفي آثار الصدمات أو الاكتئاب الناتج عن الجائحة بعد أخذ اللقاح مباشرة.

توجد بعض الأمور التي يمكننا القيام بها لتسهيل عملية التغيير؛ فحري بنا أن نتذكر البحث الذي أجرته “جيليان ساندستروم” عن مقدار متعة التفاعل مع الآخرين؛ فحتى حينما جمعت غرباء للتحدث عبر الإنترنت خلال الجائحة، تكلموا لفترة أطول من المتوقَّع؛ أي نحو 40 دقيقة – في المتوسط – ووجدوا الحديث أكثر متعة، وكانوا أكثر قدرة على الاستمرار في الكلام مما اعتقدوا، ونحن مجبولون على التواصل، حتى عندما نرغب في خلاف ذلك.

ستتعزز علاقاتنا وتعود إلى سابق عهدها، إذا لم نأخذ الرسائل التي لم نرد عليها والدعوات التي رفضناها خلال الجائحة على محمل شخصي؛ فمن الهام التحلي بالصبر وتفهُّم الناس من حولنا، الذين بدؤوا أخيراً بالخروج من منازلهم، ربما ببطء وبقلق.

وإذا كنا محظوظين، سيذكِّرنا كل الإرهاق الناجم عن استخدام منصة “زووم” بحالنا إذا فقدنا بعضنا بعضاً، وكيف يتحسن الوضع حينما نعثر على بعضنا مجدداً.

المصدر

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!