لقطة وضعت أوزار حرب

قرّاء، كثر أغلب الظنّ، يتذكرون تلك الصورة الفوتوغرافية الفريدة التي تعود إلى 8 حزيران (يونيو) 1971 وتحمل عنوان «طفلة النابالم» بعدسة المصوّر الفيتنامي الجنوبي هويون كونغ أوت (المعروف مهنياً باسم نك أوت)وتلتقط مجموعة من السكان تفرّ من ضربة أمريكية بقنابل النابالم استهدفت قرية ترانغ بانغ. في عداد الهاربين طفلة في التاسعة من عمرها، عارية تماماً، […]

لقطة وضعت أوزار حرب

[wpcc-script type=”7367ea49e4278f36cd30b811-text/javascript”]

قرّاء، كثر أغلب الظنّ، يتذكرون تلك الصورة الفوتوغرافية الفريدة التي تعود إلى 8 حزيران (يونيو) 1971 وتحمل عنوان «طفلة النابالم» بعدسة المصوّر الفيتنامي الجنوبي هويون كونغ أوت (المعروف مهنياً باسم نك أوت)وتلتقط مجموعة من السكان تفرّ من ضربة أمريكية بقنابل النابالم استهدفت قرية ترانغ بانغ. في عداد الهاربين طفلة في التاسعة من عمرها، عارية تماماً، محترقة الجسد، تهرع نحو العدسة وكأنها تبحث فيها عن ملاذ؛ وكان قسط كبير من فرادة اللقطة تعكسه لغة جسد الطفلة إجمالاً، ومشاعر الذعر الاستثنائية التي ارتسمت على وجهها.
ولسوف يروي أوت أنه رشق جسد الطفلة بما يحمل من ماء قليل، ثمّ اصطحبها إلى مستوصف على مبعدة 40 دقيقة، لكنهم رفضوا استقبالها بسبب اكتظاظ المصابين، فأبرز بطاقته الصحافية وهدد بأنّ الصورة ستُنشر يوم الغد وسوف يحمّلهم المسؤولية، فاضطروا إلى إدخال الطفلة. وعند وصوله إلى سايغون حيث مقرّ عمله في وكالة أسوشيتد برس، اختلف رأي زملائه حول صلاحية الصورة للنشر، خاصة وأنها تلتقط طفلة عارية في التاسعة من عمرها؛ حتى حسم الأمر مدير الفرع هورست فاس وتمّ إرسال الصورة إلى نيويورك فنُشرت على الفور. ومعروف أنها نالت جائزة بولتزر للتصوير من قلب الحدث، وجائزة «ورلد برس» لصورة العام عن «هول الحرب» ويجمع الكثيرون أنّ انتشارها في الولايات المتحدة وعلى امتداد العالم أثّر بعمق في الرأي العام وأسهم في تغيير وجهة الحرب.

هي على أكثر من نحو معضلة ارتباط الفنون بالحدث السياسي المفتوح والمحدد، وليس بالسياسة في معناها العامّ والشامل؛ إذْ لا جديد في التذكير بمقدار الترابط بين السياسي والإبداعي عموماً، ولا في التشديد على حاجة السياسي المحترف إلى اللوذ بحياض الفنان

بعد سنوات أعقبت التوصل إلى اتفاقية السلام، قرّر أوت زيارة هانوي، تتملكه الخشية من أنّ مواطني فييتنام الشمالية سوف يتعاملون معه بازدراء بسبب الصورة الشهيرة؛ لكنه فوجيء بردود أفعال معاكسة، ولقي الكثير من الترحيب والامتنان، إذْ كان لدى الغالبية يقين بأنّ عدسته كشفت بالفعل فظائع الحرب وكان لها دور في وضع حدّ لها. الطفلة فان ثي كيم فوك، التي تتصدر الصورة، ظلت على قيد الحياة وباتت فرداً من أفراد أسرة المصوّر الشخصية كما يقول. وأمّا مستقبل الرجل المهني فقد واصل الانتقال من نجاح إلى نجاح، وبات محطّ الاهتمام ليس بسبب صورة «طفلة النابالم» وحدها، بل لأنه غطى عشرات الوقائع العالمية الفارقة وكانت عدسته شاهداً بليغاً على الأفراح مثل الأتراح ومباهج السلام مثل أوزار الحروب. وأمّا مناسبة استعادة تلك الصورة ومصوّرها، اليوم، فهي أنّ دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق كما يتوجب القول الآن، منحه الوسام الوطني للفنون؛ وذلك يوم 13 كانون الثاني (يناير) الماضي، في واحدة من آخر أنشطته الرئاسية.
أسبوعية «نيوزويك» الأمريكية أعطت أوت 3 صفحات يبرر في سطورها سبب موافقته على قبول الوسام (في المقارنة مع بيل بيليشيك كبير مدرّبي فريق الـ«إنغلاند باتريوتس» وصديق ترامب الشخصي، الذي رفض قبول ميدالية الحرية من الرئيس الأمريكي نفسه، احتجاجاً على «الأحداث المأساوية» لاقتحام الكابيتول). ولقد كتب أوت بوضوح ونزاهة، مستدركاً على الفور أنّ الكثير من أصدقائه سوف ينحون باللائمة عليه لقبول هذا التكريم، من هذا الشخص: «إنه أمر يخصّ حياتي الشخصية، أنا رجل عحوز الآن، ولهذا فإني سعيد بأنّ الرئيس منحني وساماً (…) حين طوّق الرئيس عنقي بالوسام كانت تلك البرهة الأسعد في حياتي. لم أصدّق أنّ رئيس الولايات المتحدة منحني هذا الوسام». كذلك استذكر أوت (69 سنة) أنه التقى مع ترامب في لوس أنجليس، قبل سنوات من انتخابه رئيساً، وأنّ الأخير أعرب عن إعجابه باللقطة ذاتها وقال: «نك، صورتك غيّرت العالم». بالطبع، لم يغفل ترامب عن استغلال الواقعة إعلامياً، وقبل تقليد الوسام طلب من أحد المساعدين إحضار لقطة «طفلة النابالم» دون سواها، وأعلم الحضور أنها نسخة أصلية بتوقيع المصوّر شخصياً؛ وعليها، كذلك، توقيع الطفلة التي باتت امرأة الآن وتعيش في كندا.
يصعب، هنا، أن يتكهن المرء بالدوافع التي حدت بالرئيس الأمريكي إلى تذكّر اللقطة وصاحبها، وتكريمه، قبل أسبوع واحد من مغادرة البيت الأبيض؛ وليس في الوسع إلا استذكار أسباب مماثلة دفعت بعشرات الساسة، وبينهم طغاة ومجرمو حرب، إلى تكريم الفنون والفنانين. السجال المرتبط بوقائع كهذه هو، غالباً، التماس العذر للقابل بالوسام، أو توجيه اللوم إليه إذا كانت ملابسات القبول تنطوي على محاذير أخلاقية أو معنوية. وأذكر، شخصياً، حيرة محمود درويش إزاء قرار ديكتاتور تونس زين العابدين بن علي منحه «وسام السابع من نوفمبر» وما إذا كان الاعتذار سيحمل أيّ عواقب على علاقة منظمة التحرير مع النظام التونسي، أو أنّ التبرّع بقيمة الجائزة المادية لاتحاد طلاب فلسطين سوف يخفف من أعباء القبول الأخلاقية، أو أنّ درويش يملك أصلاً رفاه التجرّد من مسؤولياته الفلسطينية السياسية على مستوى اللجنة التنفيذية تحديداً…
هي، على أكثر من نحو، معضلة ارتباط الفنون بالحدث السياسي المفتوح والمحدد، وليس بالسياسة في معناها العامّ والشامل؛ إذْ لا جديد في التذكير بمقدار الترابط بين السياسي والإبداعي عموماً، ولا في التشديد على حاجة السياسي المحترف إلى اللوذ بحياض الفنان. ليس محبة به أو بالفنّ غنيّ عن القول، بل لأنّ الفنون هي التي اعتادت هزيمة الموت؛ كما كتب درويش نفسه، في «جدارية».

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!