لوركا وصناعة الحيرة المستدامة

قد يحار المرء في تفسير تلك الجاذبية الخاصة، المستدامة كما يتوجب القول، التي ما تزال تتمتع بها شخصية أديب إسبانيا الكبير فدريكو غارثيا لوركا (1898-1936)؛ ليس على صعيد دراسة شعره ومسرحياته فقط، بل في المقام الأوّل استعادة سيرته ومراحل حياته وأماكن إقامته بين فيغا وغرناطة ومدريد (في إسبانيا)، ثمّ كاتالونيا ونيويورك ومونتيفيديو وبيونس آيريس وهافانا. […]

لوركا وصناعة الحيرة المستدامة

[wpcc-script type=”392f72098484ad9c524983d2-text/javascript”]

قد يحار المرء في تفسير تلك الجاذبية الخاصة، المستدامة كما يتوجب القول، التي ما تزال تتمتع بها شخصية أديب إسبانيا الكبير فدريكو غارثيا لوركا (1898-1936)؛ ليس على صعيد دراسة شعره ومسرحياته فقط، بل في المقام الأوّل استعادة سيرته ومراحل حياته وأماكن إقامته بين فيغا وغرناطة ومدريد (في إسبانيا)، ثمّ كاتالونيا ونيويورك ومونتيفيديو وبيونس آيريس وهافانا. كذلك لا يقتصر الأمر، من جانب آخر، على اللغة الإسبانية في شبه الجزيرة الإيبيرية أو حيثما كانت هذه اللغة سائدة؛ بل ثمة ما يُدهش حقاً في عدد الأعمال المكرسة لسيرة لوركا في لغات واسعة الانتشار مثل الإنكليزية والفرنسية والروسية والألمانية. وللمرء، الحائر إياه، أن يتساءل محقاً عند صدور كلّ سيرة جديدة: ما الذي سوف تضيفه إلى السِيَر السابقة؟ وهل تبقّى من مكان أو زمان أو واقعة لم تُنبش أو تُدرس أو توضع في سياقاتها؟
بروحية الحيرة هذه، ولكن ليس من دون شغف وفضول ولهفة لمعرفة الجديد، قرأت كتاب «أغنية عميقة: حياة وعمل فدريكو غارثيا لوركا»، الذي وقّعه أستاذ الدراسات الإسبانية في جامعة نوتنغهام ستيفن روبرتس، وصدر مؤخراً ضمن منشورات Reaktion في لندن، في 240 صفحة. فصول الكتاب الثمانية تستمدّ عناوينها من أماكن إقامة لوركا، ولعلّ جديدها الأهمّ هو ربط النتاجات الشعرية والمسرحية بحواضنها المكانية وسياقاتها الزمانية على أصعدة سياسية واجتماعية وأدبية؛ وليست هذه الأخيرة قليلة الشأن، بالنظر إلى أنها انطوت على تباشير الحرب الأهلية الإسبانية بين 1936 و1939. كذلك أسفرت عن منع أعمال لوركا، ثمّ اغتياله على يد مجموعة فاشية من أنصار الجنرال فرانكو؛ كما شهدت انفجار التيارات الطليعية والحداثية الأدبية والفنية، مع أمثال ألبرتي وثيرنودا وفيشنتي ألكساندر في الشعر، وبونويل في السينما، وبيكاسو ودالي وميرو في الرسم، وألبينيز ورودريغو ودي فالا في الموسيقى…

إسبانيا بدت في نتاج لوركا أكثر كثافة مع ذاتها، وأكثر مرارة ومأساوية. إنها إسبانيا الأغنيات الأندلسية والغجرية والقشتالية، والانفجارات العبقرية التي تتكرر بين حين وآخر لتهَبَ الإنسانية ذُرى كونية من نوع إلغريكو وغويا

خيار روبرتس هذا يعيد إلى الأذهان انشغالاً من طراز مماثل انهمك فيه الناقد الإرلندي إيان غبسون، وأثمر سيرة عن لوركا جامعة مانعة صدرت سنة 1998 في مناسبة مئوية الشاعر؛ سبقها، في سنة 1971، كتاب بعنوان «اغتيال فدريكو غارثيا لوركا»، يدقّق في تفاصيل مقتل الشاعر على نحو يليق بمحقق بوليسي؛ وأعقبها كتاب ثالث بعنوان «غرناطة لوركا: دليل عملي»، صدر سنة 1992 بمناسبة الذكرى الخمسمئة لسقوط غرناطة، ويقترح على زوّار الأندلس، وعشّاق لوركا بالطبع، عشر جولات سياحية (نعم: سياحية، محضة!)، تبدأ من مسقط رأس لوركا إلى البقعة التي شهدت اغتياله، فتتقاطع في الكتاب خرائط الطرق ووسائل النقل والأسعار والفنادق الرخيصة ومحطات التزوّد بالوقود، بخرائط الشعر والنثر والموسيقى والذاكرة!
روبرتس، من جانبه، يذهب أبعد فيساجل بأنّ لوركا شاعر أماكنه التي قطنها أو زارها واستعار منها «العديد من أشكاله وأفكاره، وحتى اللغة ذاتها لدى فلاّحي فيغا وعرب غرناطة وغجرها، وسود نيويورك وكوبا، وعمد إلى صهرها بالأشكال والأفكار واللغة الطليعية». كذلك فإنه أحدث ثورة في المسرح الإسباني من خلال استدخال الغناء والرقص والتمثيليات الشعبية في الأندلس، ثمّ استلهام المظاهر الحسية والجنسية والإيروتيكية في المسارح الريفية الأندلسية أيضاً. وليس الجزء الأوّل من عنوان كتاب روبرتس، أي «أغنية عميقة»، سوى استعادة لمفهوم شعري اشتغل عليه لوركا طويلاً، بعد تأثره الحاسم بقصيدة الغزل العربية على وجه التحديد. الأغنية الأندلسية تلك ظلت تلاحق لوركا وتلحّ على عقله وقلبه وقلمه، فكان يغنّيها ويراجعها في الحلم ويعيد اكتشافها مرّة تلو الأخرى، ولا تخمد نيرانها التي تحرق كفّه حتى يحيلها إلى شعر. وحين صدر عملاه الثاني والثالث، «أغنيات أولى» و»كتاب الأغاني»، كانت قصائد المجموعتين قد أصبحت لتوّها على كل شفة ولسان قبل طباعتها، وذلك عبر القراءات الشعرية التي لم يكفّ لوركا عن ممارستها كطقس لا يتجزأ من سيرورة الخلق الشعري.
ومن المعروف أنّ إسبانيا بدت، في نتاج لوركا، أكثر كثافة مع ذاتها، وأكثر مرارة ومأساوية. إنها إسبانيا الأغنيات الأندلسية والغجرية والقشتالية، والانفجارات العبقرية التي تتكرر بين حين وآخر لتهَبَ الإنسانية ذُرى كونية من نوع إلغريكو وغويا، أو أنتونيو ماشادو وخوان رامون خيمينيس. وفي مطلع العقد الثالث من القرن الماضي لم يكتف لوركا بالالتفات إلى التراث الغنائي والتعبيري الشعبي، بل غاص عميقاً في لجة الروح القومية بحثاً عن النبرة الأصيلة التي افتقدها الشارع الإسباني. التصوير انبثق من المخزون الشعبي وشعر الأعراس والسمر والاحتفالات وألعاب الأطفال، ووجد لوركا في غرناطة وجنوب إسبانيا منبعاً ثرّاً من الصور والتراكيب المدهشة، فكتب عن «الصوت الأخضر»، و»الساعات المتلفعة بالأرقام»، و»العيون المشبعة بالليل»، و»النهر الراكض كثور»…
وبعض مسوغات روبرتس في كتابة سيرة جديدة (تُضاف إلى عشرات، بلغات مختلفة!) تتجاوز حكاية ارتباط النصّ الأدبي بالمكان والزمان، فتتوقف استطراداً عند انقلاب لوركا إلى «أسطورة، ورمز، وأيقونة، أو حتى إلى صنف وعلامة تجارية». وتلك سيرورة لم تحرّكها بالضرورة واقعة اغتياله، بل بدأت قبلئذ في عشرينيات القرن حين استحق لوركا لقب «شاعر الغجر»، رغم اعتراضه على أيّ مسعى يحصر شعره تحت تصنيف تعميمي.
بالفعل… بدليل حيرة القارئ والناقد وكاتب السيرة، مقترنة بالشغف واللهفة والفضول.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!