محارب فانون الذي لا يستريح

لامرئ أن يتساءل، بصفة مشروعة أغلب الظنّ: هل تبقّى حول الثائر والمناضل والمفكر والطبيب النفسي المارتينيكي، الجزائري فيما بعد، فرانز فانون (1925 -1961) عنصرٌ، يخصّ شخصه أو قيمته أو دلالات استدعائه إلى الحاضر والمستقبل، لم تُسلّط عليه الأضواء، ولم يُشبع قراءة وإعادة قراءة؟ الأرجح أنّ سؤالاً كهذا قد يبدو نافلاً بصدد أيّة قامة مماثلة ذات […]

محارب فانون الذي لا يستريح

[wpcc-script type=”90903da9ffe82b7d1f0f22ef-text/javascript”]

لامرئ أن يتساءل، بصفة مشروعة أغلب الظنّ: هل تبقّى حول الثائر والمناضل والمفكر والطبيب النفسي المارتينيكي، الجزائري فيما بعد، فرانز فانون (1925 -1961) عنصرٌ، يخصّ شخصه أو قيمته أو دلالات استدعائه إلى الحاضر والمستقبل، لم تُسلّط عليه الأضواء، ولم يُشبع قراءة وإعادة قراءة؟ الأرجح أنّ سؤالاً كهذا قد يبدو نافلاً بصدد أيّة قامة مماثلة ذات مكانة نوعية استثنائية في الوعي الإنساني، لولا أنه أيضاً سؤال يثير حكاية التأويل في المقام الأوّل؛ وما إذا كان ثمة في مسارات حياة الرجل ما يبيح، حقاً، كلّ هذه المقادير من الاشتغال والعكوف والحماس، كي لا يقول قائل: الهوس.
ولعلّ الإنصاف يقتضي أن أبدأ من نفسي، وكيف تبدّى انخراطي في هذا «الهوس» الفانوني منذ دراسة أولى مبكرة، ومفصلة، عن الخطاب ما بعد الاستعماري ونظرياته؛ نُشرت في فصلية «الكرمل»، سنة 1993، حيث استعرضتُ قراءة/ إعادة قراءة فانون لدى إدوارد سعيد وهومي بابا وعبد الرحمن جان محمد وبنيتا باري وغاياتري شاكرافورتي سبيفاك وآخرين. في مناسبات لاحقة، استعدتُ فانون في ذكرى ولادة ذلك النصّ الفريد الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي الوجودي الشهير جان – بول سارتر، على سبيل تقديم كتاب فانون الأبرز «معذّبو الأرض»؛ وفيه يقول مخاطباً الأوروبيين (بترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي): «فانون يشرح أمركم لإخوته ويحلل لهم أنواع الضياع التي نعيشها، فاستفيدوا من ذلك لتكشفوا لأنفسكم عن أنفسكم من حيث أنكم في حقيقتكم أشياء. إن ضحايانا يعرفوننا بواسطة جراحهم وأغلالهم، وهذا ما يجعل شهادتهم صادقة لا تُردّ».

تلمّس مغزى فانون في زمننا يستوجب مراجعة الميل العام إلى جعله قرين العصر الراهن، على نحو يحشره – تعسفاً في أمثلة كثيرة – ضمن مقولات لم يقاربها فكره أو يتمثلها سلوكه

مناسبة أخرى أثارتها حكاية تحويل إدانة العنف الإرهابي الأعمى إلى حامل تأثيم جماعي سياسي/ ثقافي، أو حتى بيولوجي (ثمة مَن تحدّث ويتحدّث عن «جينات» إرهابية يرثها الفلسطينيون، أو المسلمون، كابراً عن كابر!) من جهة؛ وانقلابه إلى مطحنة، عمياء بدورها، تطحن كيفما اتفق بعد أن تخلط الحابل بالنابل، من جهة أخرى. وكان تعليقي قد تناول رأي الأمريكية جيسيكا ستيرن، صاحبة كتاب «إرهاب باسم الله» والموظفة السابقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي (قسم أوكرانيا!)؛ التي اعتبرت أنّ أفكار أيمن الظواهري تتماثل مع أفكار فانون عن العنف بوصفه «قوّة تطهيرية» تحرّر الشباب المقهور من «عقدة النقص، واليأس، والعجز عن الفعل». ولقد تناست ستيرن أنّ مسألة العنف لم تكن واضحة تماماً في مشروع فانون العامّ، وكانت تمتزج عنده بمفهوم «استخدام القوّة» أحياناً، و»الكفاح المسلح» أو «الانتفاضة الجماهيرية» أحياناً أخرى؛ حتى أنه، في «معذّبو الأرض»، ذهب إلى درجة الحديث عن «عنف مسالم».
مناسبة ثالثة، كانت الأحدث عهداً فقط، استدعتها حقيقة أنّ الرئيس الجزائري المتنحّي عبد العزيز بوتفليقة عمل سكرتيراً لدى فانون خلال أطوار ما قبل استقلال الجزائر، وحين كان الأخير مشاركاً مباشراً في الثورة الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسي وأحد أبرز أقطابها على مستوى الفكر والإعلام الثوري. ولقد تساءلتُ إنْ كانت أقدار فانون (الذي رحل في مشفى أمريكي بعد مرض عضال)، وأقدار بوتفليقة (الذي جاء به مركّب السلطة، أي أجهزة الاستخبارات والجيش ورجال الأعمال ومافيات الفساد والنهب، من منفاه في دبي ليسدّ فراغ الواجهة)؛ لم تكن مثالاً على التقاطع في التناقض، بل التكامل المنهجي في مآلات حركة وطنية ناضلت من أجل الاستقلال، ثمّ حكمت، ومارست السلطة الوطنية، فجابهت معضلاتها ومفاسدها، في آن معاً.
ويبقى أنّ الباعث المباشر خلف هذا العمود، اليوم، هو كتاب «فرانز فانون والنظرية الاجتماعية التحررية: وجهة نظر المعذّبين»؛ صدر مؤخراً بتحرير دستن ج. بيرد وسيد جواد ميري، ضمن منشورات بريل في لايدن، هولندا. فصول المجلد كتبها باحثون وأكاديميون من أصول «عالمثالثية»، إذا جاز أنّ المصطلح ما يزال يتمتع ببعض الدلالة (السنغافوريان سيد فريد العطاس ومحمد عمران محمد طيب، اللبناني علي حرفوش، والإيراني ماجد شريفي، والهندي برامود نايار، والماليزي إسماعيل زيني)؛ فضلاً عن غربيين من أوروبا وأمريكا (مميا أبو جمال، روز بروير، شون شابوت، ريشارد كرتيس، نايجل غيبسون، تيموثي كرزويل، إيلينا فلوريس رويز). وهو، بالطبع، عمل يعيد من جديد طرح السؤال الذي تصدّر هذه السطور: ما الجديد الذي يمكن استكشافه، أيضاً وهذه الأيام، لدى فانون؟
ولقد لفتت انتباهي، بصفة خاصة، مطارحة الماليزي زيني الذي ساجل بأنّ تلمّس مغزى فانون في زمننا يستوجب مراجعة الميل العام إلى جعله قرين العصر الراهن؛ على نحو يحشره – تعسفاً في أمثلة كثيرة – ضمن مقولات لم يقاربها فكره أو يتمثلها سلوكه. الأمر الثاني هو وجوب النظر في قراءة معاكسة، تبحث أسباب غياب مغزى فانون عن قضايا كثيرة معاصرة؛ وهل ترجع حالة كهذه إلى قِصَر الفترة التي شهدت تفتّح أفكاره (بين الخمسينيات ومطالع الستينيات)، أو انبثاقها على خلفية ثورات التحرر من الاستعمار عموماً، والثورة الجزائرية خصوصاً؟ ولعلّ هذه المطارحة تحديداً يمكن أن توفّر خدمة منهجية ثمينة لباحث مصاب بـ»الهوس» إياه، وحائر في الآن ذاته إزاء فيوض ما كُتب واستُكشف من إرث فانون.
وفي كلّ حال، لا بارقة توحي بأنّ الدراسات الفانونية سوف تشهد انحساراً، أو حتى استراحة محارب، في المدى المنظور.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!