“مدينة الملاهي”.. رحلة غامضة لاكتشاف الذات في دروب الصحراء السعودية

في رحلة برّية بلا وجهة، تتعطّل سيارة ثنائي وسط صحراء في السعودية، فتتحول رحلتهما المضجرة إلى مغامرة غير مُخطَّط لها، يكتشف خلالها الزوج ذاته.

د. أحمد القاسمي

يُقال في علم الفلك إن الضغط الشديد حين يُسلط على كوكب ما يحطمه ويحوله إلى ثقب أسود أكّال لكل ما يقع في سبيله، فلا يفتأ يتوسع ويمتص ما يقع في محيطه من الكتل. فكيف يقع ذلك؟

لا المجال يسمح بالتوسع في التفاصيل ولا اختصاصنا يسعفنا بما يتجاوز المعلومات العامة. حسبنا أن الظاهرة تشكل لغزا من ألغاز الكون لا يزال علماء الفلك يحاولون حله، وحسبنا أن نذكر أن هذه الظاهرة الفلكية مثلت معينا استعاريا منح الفيلم السعودي “مدينة الملاهي” المميز شرعية الانتماء إلى فن السينما البديع.

عطب السيارة بطريق صحراوي قاحل.. غموض المغامرة

تنشأ عقدة الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج السعودي وائل أبو منصور تأليفا وإخراجا “مدينة الملاهي” من عطب يُصيب سيارة مسعود، وذلك حين كان يركب الطريق الصحراوي القاحل بحثا عن مصير جديد. يقوده بحثه بعد أن ترك زوجته سلمى في الخلاء إلى محل مجاور لمنتجع بائس يكاد يهجره زائروه يُعرف بمدينة الملاهي، وبعد مفاوضة شاقة يتفق مع الميكانيكي سفيان أبو طاقية على أجرة الإصلاح وموعد تسلم السيارة.

سلمى ومسعود خرجا في رحلة إلى الصحراء، حيث حدث عطب في سيارتهما غيّر مسار الرحلة

 

لقد أراد المخرج لهذه الرحلة أن تلتبس بالغموض، فلم يخبرنا بنقطة انطلاقها ولا بوجهتها ولا بغايتها، ولم يقدم لنا هوية الزوجين من جهة الانتماء الاجتماعي أو الفكري، واكتفى بحوار مقتضب بين الزوجين يرشح قلقا بخلق انطباع في نفوسنا، مراده أن بطلينا يقدمان على عمل مغامر يقتضي جَلَدا ورباطة جأش، واختار لبطله اسم مسعود، حتى يستغرق الاسم كل مواطن سعودي.

بحلول الغد يقصد مسعود مدينة الملاهي ليتسلم سيارته حسب الاتفاق، وإذ به يكتشف أنه وقع بين يدي محتال خطير، فسفيان أبو طاقية قد أخذ معه السيارة واختفى، وكان عليه أن يرابط في هذا المنتجع عدة أيام، بحثا عن حل لمأزقه رغم ما واجه من مضايقات، أما سلمى فظلت في خيمة بين كثبان الرمال القصية، ولم يصطنع المخرج هذا الحادث إلا ليفصل بين الزوجين، وليأخذنا عبر كل منهما إلى عالمين مختلفين، عالم المنتجع الذي يرشح عنفا، وعالم التخييم حيث تكتشف سلمى الحلم والفن والحرية.

أفلام الطريق.. سباق الحواجز الشائكة في عوالم الفيلم

تجري الرحلة في الغرب السعودي، وتعود إلى سنة ما من ثمانينيات القرن الماضي، لا يخبرنا الحوار بشيء من هذا، لكن المناظر الطبيعية ونوع السيارة والتجهيزات والأثاث تفيد ذلك، وتكشف أن المخرج وائل أبو منصور اختار أن يخرج فيلمه الطويل الأول ضمن “أفلام الطريق”، ذلك النمط السينمائي الذي لا يلزم بالبناء الثلاثي المعهود (بداية ووسط ونهاية)، فيجعل شخصياته تتفاعل مع الفضاء.

في كل مرحلة من الطريق تواجهنا تحديات ووقائع غير متوقعة ومغامرات مثيرة، ويكون مسارها أشبه بسباق الحواجز، فكلما تجاوزت عائقا اعترضها آخر، فتتعطب السيارة في مكان قاحل، ويفترق الزوجان ليفتح باب المغامرة أمام كليهما، وليُؤخذ كل منهما إلى عوالم مختلفة كل الاختلاف، ليخوضا تجربتين في الوجود متقابلتين.

الزوجان السعوديان مسعود وسلمى بعد أن تعطلت سيارتهما في الصحراء

 

ولئن ارتحل الزوجان في الفضاء، فإن رحلة المخرج كانت في الزمن أساسا، فقد جعل الفيلم وسيطا ليتأمل مسار وطنه على مدار العصور الخوالي، وليتطلع إلى صورة المستقبل التي تُبشّر بها الاختيارات السياسية والفكرية على أيامنا، فيبدأ العرض بمشهد الزوجين يركبان السيارة ويستمعان إلى صوت تسجيل للدكتور مصطفى محمود موضوعه الانفجار الكوني ونشأة الحياة، فيذكر أن للكواكب بداية وشبابا وكهولة وشيخوخة تؤذن بالنهاية وبالوقوع في الثقب الأسود. وعندما يتساءل الصوت “ترى ما حكاية الثقب الأسود”؟ تبدأ مقدمة الفيلم وتنطلق المغامرة، فإذا لسان حال المخرج يجيب: “حكايته هي حكاية مدينة الملاهي”.

شيخوخة مدينة الملاهي.. أسرار فلكية ترشد طريق النص

الفضاء حيث تسير العربة هو أراض ممتدة شاسعة، والعجيب أنها لم تكن تعطي الانطباع بالامتداد والانطلاق كما في الأفضية المفتوحة بقدر ما كانت تكتم على الأنفاس، فالأعمدة الضخمة لمحطات توليد الكهرباء وأسلاكها المتشابكة والهضاب ذات التراب الأسود المحترق بفعل الشمس والسماء الرّمادية، جميعها عناصر تؤذي العين بشكل مزعج، وتحوّل المشهد إلى متاهة، كما توحي بالريبة المحلات البائسة في مدينة الملاهي المهجورة إلا من نفر قليل من العمال العدوانيين والحافلات التي تحمل رجالا غرباء بؤساء إلى عالم آخر لا نعرف ما هو. ما هي مدينة الملاهي إذن؟

عهدنا أن تغلب العروض المبهجة والمشاهد البصرية الفاتنة والمغامرات والمرح في سينما مدن الملاهي، وإن عاشت شخصياتها الرئيسية مغامرات غير منتظرة ومآزق شتى، ووجه العدول من مدينة وائل أبو منصور في انعدام هذه الخلفية المرحة، فكل ما في الفضاء يحيل إلى القتامة والبؤس والاستغلال وشظف العيش، وكل ما يوحي بالملهاة وجها يكشف عن المأساة قفا.

وبعد استعادة مسعود لسيارته يستأنف الزوجان الرحلة، ويستأنف د. مصطفى محمود حديثه عن “اللّغز الفلكي” ليساعد المتفرج على فكّ أسرار الفيلم، فالأصل أن التوازن يحكم العمارة الكونية، لكن لفرط قوة جذب ما يتعرض له الكوكب ينهار و”يتهرس تماما ويتحول إلى ثقب أسود”.

مدينة الملاهي المهجورة والخالية من الناس

 

هل أدركت عمارة “مدينة الملاهي” الشيخوخة وأخذت تفقد توازنها، فتتطرّف في الجذب إلى عالم المنتجع التقليدي، حيث التدين عن الجهل والاستغلال والجشع المادي إذن؟ أم يفرط شباب المخيم -كما سنعرض بعد حين- في التطلّع إلى الحداثة وقطع الصلة بالماضي؟ وهل توشك مدينة الملاهي على الانهيار بسبب التطرف إلى هذا الاتجاه أو ذاك لتتحول إلى ثقب أسود؟

مسعود.. تمزق الرجل الشرقي بين الحرية وضريبتها

لن يظفر المتلهّف إلى المغامرة والإثارة بالشيء الكثير في العرض، فنحن لا نهمل كثيرا من أحداث الفيلم حين نختزل حكايته في فقدان مسعود لسيارته، ثم استعادتها لاحقا ليستأنف رحلته، لكن الدلالات العميقة لا توجد في هذه الطبقة السطحية من الحكاية بقدر ما تكمن في النصوص المصاحبة والموازية، وهذا ما حصل في مداخلة مصطفى محمود التي تبدو هذرا في الظاهر وخلفية صوتية للرحلة لا أكثر، وفاعلية فهم وتأويل في الحقيقة كما أسلفنا الذكر.

وكذلك الأمر في النص القرآني الذي يرد على لسان الإمام (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا). فكما يُقذف موسى في التابوت خوفا من جبروت فرعون ويُرمى في اليم ليأخذه التيار إلى الساحل؛ يُقذف مسعود في الطريق هربا من مدينة الإثم.

يتجسد ذلك أيضا في المشاهد الحميمية لحياة شبان المخيم الخارجين عن الأعراف والتقاليد، وفي أغانيهم التي تتفاعل معها سلمى، مثل “حبيبتي لعابة زي الذبابة، بتلف وتدور، تدور عالنور، بس هي حُرّة، تحيا الحرية، حتى لو هي مُرّة، شوية عليّا”.

تعكس الكلمات تطلّع مسعود إلى حياة الحرية وإلى حياة النور، وتستدعي إلى أذهاننا أصداء بعيدة لقصيدة أبي القاسم الشابي “يا ابن أمي” التي تتغنى بالحرية فتقول:

خُـلقتَ طليقًــا كــطيفِ النسـيمِ .. وحـرًّا كنورِ الضُّحـى فـي سـماهْ

ألا انهضْ وسـرْ في سـبيلِ الحيـاةِ .. فمــن نــامَ لـم تَنتَظِـرْهُ الحيـاهْ

إلـى النُّـور! فـالنور عـذْبٌ جـميلٌ .. إلــى النــور! فـالنور ظِـلُّ الإلـهْ

لكن هل يسلم الرجل الشرقي من التناقضات الداخلية ومن التمزق بين التطلع إلى الحرية والعجز عن دفع ضريبتها؟ أليس في حرية ابن الأم وفي الكناية إشارة إلى الإنسان مطلقا، تحرير للمرأة من سجن المجتمع الذكوري الذي تربى على ملكية جسدها ومصيرها؟

مسعود يشعر بالتناقض الداخلي والتمزق بين التطلع إلى الحرية والعجز عن دفع ضريبتها

 

في أغنية أحد شبان المخيم صدى لهذا التردد، فتقول كلماتها:

حبيت وحدة شقرا وصحيت من النوم وطلعت غبرا
بس تكون لي عبرة يا ابني لا تلوم دي العبرة خِبرة
أنا مالي ومالي يا بنت شقرا خليني في حالي

مدينة الملاهي.. دلالات عميقة تنبثق من سطح الحكاية

تأخذ “مدينة الملاهي” دلالة استعارية، فلا تحيل في سطح الحكاية على ذلك المنتجع المرمي في مكان قصيّ من الجغرافيا، إلا لتحيل على مدينة المخرج التي تجافي الفضيلة، فتنهار قيمها في مجتمع يدعي الفرح والحياة المُنعمة الصالحة، ويعيش في الحقيقة حياة النفاق والرياء. ولا تصنع عالما غرائبيا في ظاهرها إلا لتقترب أكثر من الواقع، فتكشف عن مواقف المخرج من الإرث الثقافي والحضاري التقليدي، ومن حيرة الضمير السعودي وتردده وهو يقدم على الانفتاح، وعلى تصوّر مختلف للوطن والمواطنة.

هذه المدينة تخضع لجذب عنيف من قوتين متناظرتين، تأخذها الأولى إلى الانطواء على الذات والعزلة عن العالم الخارجي، وتسحبها الثانية إلى المعاصرة بخيرها وشرها.

ولعلّ أزمة الضمير في الفيلم أن الحدود بين الخير والشر في هذا العالم الجديد المشرع على الحرية تبدو غائمة. ولقوة الجذب في هذا الاتجاه أو في ذاك ولتتطرّف كليهما ومخالفتهما للفطرة الإنسانية التي تميل إلى الاعتدال، أو لغياب “التوازن الذي يحكم العمارة الكونية” على عبارة مصطفى محمود التي يلحّ عليها المخرج توشك المدينة أن تقع في الثقب الأسود.

سينما الطريق.. من رحلة في الفضاء إلى رحلة لاكتشاف الذات

يكشف الفيلم عن مخرج واعد حقا، فلا يقدم على “سينما الطريق” إلا وهو عارف بخلفياتها الفكرية، ولا يختار جمالياته عشوائيا أو بطريقة اعتباطية ومجانية، فقد جسّد هذا النمط ثقافة الاحتجاج الشبابي في الولايات المتحدة، وكرّس وعيا ما بأزمة القيم التي عاشها المجتمع الأمريكي في نهاية الستينيات، فشكّل ثقافة مضادة رافضة.

سلمى تكتشف عالم الفن والحلم والحرية في لقاء الصدفة مع شبان التخييم

 

على النحو نفسه جاء فيلم “مدينة الملاهي” متفاعلا مع الراهن السياسي السعودي الذي يحاول قطع الصلة مع الرؤية التقليدية والانفتاح على الثقافة الغربية وقيمها، لكنه لا يقف منه موقف المتملّق الذي يسخّر عدسته للدعاية السياسية الفجة، فكما في أصل هذا النمط الفيلمي تتحول رحلة مسعود في الفضاء إلى رحلة في الذات، لكنها لا تمكنه من حلول نهائية تبدّد حيرته ولا تخول له أن يحسم اختياره بين الانتصار إلى قيمة الحرية والتفريط في سلطته الذكورية، أو التمسك بهذه السلطة وخيانة تطلعه إلى التحرر، فيظل في دائرة الأسئلة، لكن هل ينتظر الثقب الأسود طويلا والمدينة توشك أن تقع في دائرة أشعته؟

لغة الإيحاء.. تحرير السينما من مغامرات ساذجة

يزج الغموض والترميز بالفيلم ضمن السينما الشعرية التي لا تجيدها الكاميرا العربية كثيرا، والتي ترى أنه على الفنان أن يحطم هذه الدعائم المضللة، وأن يحطم بالتبعية كل ما له صلة بالعقل والمنطق، وتؤمن بأن الصورة أكثر من بهرج شكلاني، وتجدها وسيلة للمعرفة ولمقاومة الزيف والضلال ولتحديد شكل الإقامة في الكون.

يمثل هذا الجنس السينمائي تيارا روحانيا يهدف إلى تحرير السينما من المغامرات الساذجة، ومأتى الشعر هنا أبعد ما يكون عن الصور الجميلة التي تُحوِّل المشاهد إلى بطاقات بريدية تعرض صور الغروب وراء الكثبان الرملية الفاتنة، فلم يكن المخرج يستهدف المرئي في عالم الحكاية (صورة المدينة أو سرقة السيارة) بقدر ما كان يعبّر عن الحقائق الكامنة خلف حجبها، أي حالة القلق التي يعيشها الفرد السعودي وهو في مفترق الطرق بين رؤيتين للوجود، وتصوّرين لمنزلة الإنسان في المجتمع ولحقوقه وحدود حريته، فاعتمد الإيحاء والترميز، واخترق الذات وجال في جوانبها المريبة.

وائل أبو منصور.. طريق السينما الموحشة إلى أعماق النفوس

قطعا يدرك المخرج وائل أبو منصور أن حظ مثل هذه الأفلام من النجاح الجماهيري والنقدي قليل، فهي لا تجد غير عيون شبيهة بالماسح الضوئي (scanner) تكتفي بأن تربّت على المشاهد، دون أن تحفر فيها عميقا لفرط تعايشها مع الصورة التلفزيونية السطحية، وتتلهف على قطف الدلالات المباشرة الطافحة على الطبقة السطحية من الحكاية، والحال أنها تحتاج عيونا معاول لا تربت على الشاشة، وإنما تحفر لتغوص في أعماقها.

مخرج فيلم “مدينة الملاهي” السعودي وائل أبو منصور الذي عُرف فيلمه بسينما الطريق

 

اطلاعنا حول ما رافق العروض الأولى منه من قراءات متسرعة يؤكد هذه الحقيقة، ولا شك أن لثقافة المخرج ولعمله بالصحافة ولخبراته الفنية دورا في اختياره الشجاع هذا، فقد آثر أن يسلك المسرب الشائك حافيا، والمسارب الشائكة كثيرا ما تدمي أقدامنا في البداية، لكنها تتحول بعدنا إلى طرق معبّدة، فتُنسب إلينا وتُسمّى بأسمائنا.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!