مستعمرات الفضاء.. مساكن الإنسان على الحدود العليا للكوكب

لطالما طمح الإنسان أن يسافر إلى الفضاء، وقد تحقق له ذلك، وهو يطمح اليوم لأن يقطن الفضاء بعيدا عن الأرض ظنّا منه أنه سيجد هناك مالا يجده على الأرض.

يمان الشريف

يعتقد بأن أول ذكر لمستعمرة فضائية عائمة جاء على لسان الروائي الأمريكي “إدوارد إيفريت هيل” في روايته الفريدة “القمر القرميدي (1869) التي تطرقت إلى مشاهد تخيلية لعملية بناء وإطلاق مبنى دائري الشكل شُيّد من الطوب بارتفاع 200 قدم، كان أُطلِق في مدار حول الأرض بالخطأ قبل أوانه بينما كان على متنه أناس صعدوا به إلى الفضاء.

وتدور أحداث الرواية عن مصير هذا الرهط القليل من البشر الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها خارج الغلاف الجوي للأرض، ولا تنتهي القصة عند هذا الحد، بل تستمر الحياة على سطح هذا الجرم السماوي الصناعي، فيجدهم القارئ تارة يحيون حفلات الزواج وتارة أخرى يقيمون الشعائر الدينية ويستمتعون بالأعياد والمناسبات. وهنا تقدم الرواية نموذج عيش في الفضاء بحلة بهية بدلا من أن تكون عيشة ضنكا.

 

تفتقر الرواية بالتأكيد للكثير من البدهيات العلمية الحاضرة اليوم، لكن الكاتب “هيل”، كما يبدو، استند في حبكته على الشواهد النفسية والاجتماعية أكثر من العوامل الأخرى، محاولا رسم خارطة للحضارة البشرية في المستقبل القريب.

وتنتهي القصة ببعض التأملات التي تتناول المجتمع البشري المثالي، إذ يقول الكاتب: ألا يمكن لجميع الروابط البشرية أن تزدهر، وأن يمارس البشر جميع صلاحياتهم، وأن يكونوا أكثر سعادة وبهجة إذا ما عشنا ضمن مجتمع صغير يتألف ربما من ثلاثين أو أربعين شخصا، فيتراسل الجميع فيما بينهم للاطمئنان على ذويهم؟

لا ضير في الاستناد على هذه الرواية والأخريات مثلها، في تحديد نموذج أوّلي لمستعمرات البشر العائمة في الفضاء دون إغفال الحقائق العلمية التي توصل إليها العلم الحديث، ولعلنا في هذا المقال نتطرق إلى الحديث عن عالم المستعمرات الفضائية والأطروحات التي قُدّمت خلال القرن الماضي في هذا الشأن والإشكاليات التي تفرض نفسها للتعامل معها في بيئة قاسية لا ترحم.

تقلبات الطقس.. مراكب فضائية أمام جموح الفضاء

كثيرا ما صوّرت أعمال الخيال العلمي السينمائية بيئة الفضاء بشكل سلس مغاير لحقيقتها القاسية المرّة، كي يتسنى لصنّاع الأعمال تصوير المشاهد المثيرة وصنع الحبكات التشويقية بسلاسة، وهذا ما قد يرسخ في ذهن المشاهد بعض المفاهيم المغلوطة عن الفضاء.

إنما يُنظر إلى الفضاء الخارجي على أنه أكثر البيئات قسوة، إذ يقع خارج الغلاف الجوي ويمتد حيث شاء خالقه له أن يمتد، شاغلا حيّزا من الكون لا يمكن تغطيته لا حسابيا ولا تخيليا حتى.

ففي الفضاء تتعرض المركبات والأجسام لأخطار عدّة، مثل تقلبات الحرارة المفاجئة بين الحرارة القصوى والبرودة القصوى، وكذلك ثمّة تهديدات مستمرة من النيازك الصغيرة السابحة في الكون، وأيضا خطر الأشعة الكونية الفتاكة والأشعة القادمة من الشمس ذات الجسيمات المشحونة.

 

وفي تفصيل ذلك، تتعرض المراكب الفضائية إلى درجات حرارة منخفضة للغاية عند غياب أشعة الشمس، وعند حضورها تصل درجة الحرارة بضع مئات من الدرجات المئوية، خصوصا عند عبور المركبة الفضائية بالقرب من الشمس.

فعلى الرغم من أن بيئة الفضاء تُعد محيطا شبه فارغ، فإن الطاقة الحرارية تنتقل بواسطة الأشعة الكهرومغناطيسية التي تأتي عادة من الشمس. وعلى ذلك فإنّ جميع الأجسام الكهربائية وحتى بدلات الفضاء ينبغي أن تحتوي على طبقة عازلة تحافظ على درجة حرارة البيئة الداخلية للمركبة وللجسم الحي.

أجرام الفضاء السابحة الفتاكة.. خطر قاتل

بالنسبة للأشعة الفتاكة في الفضاء التي تحتوي على “شظايا الذرات” -أي أنها مجرّدة من أنويتها- ذات الطاقات العالية مثل البروتونات والإلكترونات، فإنّ الفضل يعود إلى الغلاف المغناطيسي للأرض الذي يمنع تسرب كثير من هذه الجسيمات الأولية النشطة إلى الأرض، وينقسم مصدرها إلى ثلاثة أقسام: أشعة كونية مصدرها من خارج المجموعة الشمسية، وأشعة شمسية قادمة من الشمس، وتزداد كثافتها مع ازدياد النشاط الشمسي، وأخيرا أشعة وجسيمات عالقة في المجال المغناطيسي للأرض.

يطمح البشر اليوم لأن يقطنوا الفضاء ظنّا منهم أنهم سيجدون هناك ما لم يجدوه على الأرض

 

كما تشكل خطرا كبيرا تلك الجسيمات العالقة حول الأرض حزامي “فان ألين” اللذين اكتشفا بواسطة العالم الهولندي “جيمس ألفرد فان ألين” في منتصف القرن الماضي، ويقعان على مسافتين متفرقتين حول الأرض. وعند تعرض الدوائر الإلكترونية لهذه الأشعة الفتاكة فإنّ تيارات زائفة تبدأ بالتدفق حول المركبة الفضائية، وقد تحترق الألواح الإلكترونية بأكملها، مما يتسبب بتلفها.

 

بالإضافة إلى عامل آخر مهم، وهو خطر الأجسام الصغيرة السابحة في الفضاء التي يسير بعضها بسرعات عالية تبلغ عدة كيلومترات في الثانية، وهذا من شأنه أن يمنحها زخما كبير بغض النظر عن حجمها وكتلتها، وما يُلاحظ أن المهندسين عندما صمموا تلسكوب “هابل” جعلوا أسطح الألواح الشمسية على أصغر حجم ممكن، لتفادي وقوع هذا من النوع من الحوادث.

فضلا عن تأثير انخفاض قوة الجاذبية وربّما تصل إلى مستويات تحاكي انعدامها، مما يتسبب بتبعات بيولوجية وفيسيولوجية على مستوى الكائن الحي، ومشاكل أخرى على مستوى الأجهزة الإلكترونية والأنظمة الحركية التي تعتمد على قوة الجاذبية في حركتها.1

ولم تكن حماية المركبات الفضائية في ظل هذه التحديات بالأمر الهيّن طيلة محاولات الإنسان في رحلة استيطان الفضاء الخارجي. وبطبيعة الحال، تزداد خطورة وحساسية الأمر كلّما كبر حجم المركبة أو المحطة، والحديث عن المستوطنات الفضائية يرفع سقف التحديات أمام المهندسين كثيرا. وقد يتساءل متسائل عن سرّ اهتمام البشر بالفضاء ومستعمراته على هذا النحو، وما هي الغاية وراء هذا السعي الحثيث وسط كم كبير من المخاطر والبشر في الأساس يعيشون على كوكب مهيأ صالحا للسكنة.

مستعمرات الفضاء.. درع إنقاذ ومحطة انطلاق إلى السماء

لم يعرف الإنسان كوكبا كالأرض ولا نجما كالشمس، وتبدو العلاقة التي يحكمها النظام البيئي مألوفة للغاية بالنسبة لسائر الحيوانات والكائنات الحية، ولو افترضنا جدلا أنّ اختلالا في موعد شروق الشمس ومغيبها قد حدث، فإنّ الكائنات الحيّة -ومنها المخلوقات البحرية- ستكون عرضة للرهبة والاستنفار العام. وعلى مستوى الاختلال في قوة الجاذبية، فإنّ حيوانات كثيرة قد تكون غير قادرة على أداء وظائفها البيولوجية على النحو الصحيح، وبالتالي يقع ضمور وركود قد ينتج عنه انقراض أصناف من المخلوقات.

والأسباب التي تربطنا بالأرض لا تكاد تحصى، إلا أنّ أمر الاستعمار الفضائي يتجاوز ذلك بكثير، بل يتناوله بشكل يدعم نظرية إنقاذ الكائنات الحية، إذ يرى جمع من المهندسين والعلماء أنّ وجود حل بديل للأرض أمر لا مفر منه وسط كوارث طبيعية وأخرى بشرية، وربّما هو السبيل الوحيد لإنقاذ الجنس البشري على المدى البعيد إذا ما ساءت الأمور.

وشواهد الانقراض الحيواني والنباتي على كوكب الأرض كثيرة، ولعل الديناصورات خير دليل على ذلك، فقد انقرضت على إثر سقوط نيزك على الأرض قبل 66 مليون سنة وفق تقدير علماء الأرض.

للتعويض عن الجاذبية الأرضية، اقترح العلماء بناء شكل اسطواني ضخم دوار يوفر الجاذبية لسكان المستعمرات الفضائية

 

وهناك سبب آخر ينظر إليه الجادون في هذا الأمر، وهو أنّ المستعمرات الفضائية العائمة قد تكون محطة مثالية للعبور إلى بيئات أخرى في الكون، سواءً إلى أسطح الكواكب أو الأقمار الأخرى في المجموعة الشمسية، وحينها ستكون تكلفة الإقلاع خارج الغلاف الجوي أقل بكثير بحكم انعدام الجاذبية.

وربما يكون الغرض الأسمى من إنشاء مستعمرات الفضاء هو في إحكام استقلاليتها إلى أقصى قدر ممكن في النظام البيئي الصناعي، فلا يكون أي اعتماد على موارد خارجية في عملية سير عجلة الحياة. وثمّة عدة نماذج قدمتها بعض الشركات المهتمة خلال القرن الذي مضى للوصول إلى هذه النقطة المنشودة.

صناعة الجاذبية.. خطة ثورية لأبي الملاحة الفضائية

بالنسبة للمهندسين، فقد مثّل فقدان جاذبية الأرض في الفضاء أهم وأبرز العقبات في رحلة استيطان الفضاء، وإيجاد بديل كان وما زال الشغل الشاغل على مستوى علماء الفلك، وما ندركه اليوم عن طبيعة قوة الجاذبية أنها ليست سوى تأثير ناتج من انحناء الزمكان -أي نسيج الكون- بسبب الكتلة. والعاملان الأساسيان في تحديد حجم هذه القوة أو هذا التأثير هما: مقدار الكتلة والمسافة الفاصلة بين الأجسام.

فلو أننا ابتعدنا عن كوكب الأرض سنرى تقلصا في تأثير الجاذبية علينا بشكل تدريجي، ولو أنّ جسما أقل كتلة كنا نعيش عليه مثل القمر، فإنّ قوة الجاذبية ستكون أقل بكثير، نحو سُدس جاذبية الأرض. والأمر يزداد صعوبة كلما كان الجسم الذي نقيم عليه أصغر حجما، ويكاد يكون معدوما على سطح المركبات الفضائية والسفن.

وعلى ما يبدو عليه الحال، فصعوبة سلوك ذات النهج في اختلاق تأثير الجاذبية كما هو على الأرض يُعد أمرا محالا، والسبيل الوحيد هو الالتفات والتحايل على قوانين الفيزياء لخلق ذات التأثير.

ففي عام 1903 نشر الفيزيائي الروسي ” كونستانتين تسيولكوفسكي” الملقب بأبي الملاحة الفضائية مقالة بعنوان “استكشاف الفضاء بواسطة آلات التفاعل”، وقد شرح فيها آلية تعتمد على تأثير قوة الطرد المركزي لخلق جاذبية تحاكي جاذبية الأرض، وأطلق عليها الجاذبية الصناعية.

يقول “تسيولكوفسكي” موضحا: تعتمد قوة الجاذبية الصناعية على السرعة الزاوية ونصف قطر الدوران. فقد تكون أقل بحوالي 1000 مرة من جاذبية الأرض، أو يمكن جعلها أكثر بـ1000 مرة من جاذبية الأرض. ولإدارة مستعمرة أو محطة فضائية، لن يلزمنا تحريك الأجسام حركة دورانية بشكل مستمر، فبالاعتماد على سمة القصور الذاتي للأجسام ذات الحركة الزاوية، فإن حركتها هذه ستكون أبدية، وهو ما يعرف بقانون حفظ الزخم الزاوي.2

وقد تبنّت بعض الأطروحات هذه الخاصية في هيكلة المستعمرات البشرية في الفضاء لتوفير بيئة سليمة للكائنات الحية، وما يجب التنويه عليه هو أنّ بناء أيّ مستعمرة فضائية يعتمد على اتحاد علم الفضاء والعمارة معا.

“الإنسان سوف يغزو الفضاء قريبا”

في منتصف خمسينيات القرن الماضي طرح عالم الصواريخ ومهندس الفضاء الألماني “فيرنر فون براون” عدة تصاميم مبتكرة لمحطة فضاء مرفقة بكافة المؤهلات والخدمات المعيلة لأي مجتمع بشري. وقد جاء ذلك ضمن سلسلة من المقالات في مجلة “كويلر الوطنية” بعنوان “الإنسان سوف يغزو الفضاء قريبا”.

ووفقا للمواصفات التي شملتها تصاميم “فون براون”، فإنّ هذه المستعمرة تبدو كعجلة بقطر طوله 76 مترا تدور حول الأرض مرّة كل ساعتين على مدار قطبي. وبالاعتماد على الحركة الزاويّة في المستعمرة فإنّ الجاذبية الصناعية تتولّد، ويكون اتجاه قوة الجاذبية نحو خارج القرص. وأما المركز أو البؤرة فإنّ الجاذبية عندها ستنعدم.

عالم الصواريخ ومهندس الفضاء الألماني “فيرنر فون براون” من أوائل من وضع تصاميم مبتكرة لمستعمرات فضائية

 

ويُعد المركز هو اللبنة الأولى ونقطة انطلاق بناء المستعمرة التي سيجري تركيب وحداتها وأقسامها الأخرى تباعا، كما ينطلق من المركز عدّة ممرات تسمح بالتنقل بين أجزاء القرص بسهولة وسلاسة. وكذلك يُعد المركز المنفذ الوحيد من الفضاء وإليه عبر بوابة رئيسية.

وقد تكفلت “مؤسسة غيتواي” (The Gateway Foundation)، منذ نشوئها عام 2012، ببناء أول محطة فضاء دوّارة في العالم تحاكي نموذج “فون براون”. ووفقا للمؤسسة، فإن المحطة لن تكون قاعدة للتجارب العلمية فحسب، بل ستكون موطنا لبعض المخلوقات، وكذلك نزُلا لسياح الفضاء.

وتقع آمال اكتمال المشروع على عام 2025 بأفضل تقدير، ويشير المهندس الأساسي في المشروع “تيموثي ألاتوري” أن محطة الفضاء “فون براون” ستكون أكبر هيكل بناه الإنسان في الفضاء بطاقة استيعابية تبلغ 450 شخصا. كما ستشمل المحطة عددا من المرافق الترفيهية من مطاعم وصالات رياضية، ونقاط للاستجمام ومشاهدة الفضاء وكوكب من الأرض عن بعد.3

المستعمرات الأسطوانية.. قفزة بالحضارة البشرية إلى مستوى آخر

في كتابه “الحدود العليا.. المستعمرات البشرية في الفضاء” ذكر الفيزيائي الأمريكي “جيرارد أونيل” حيلة لبناء مستعمرة فضائية باستخدام مواد مستخرجة من القمر، وربّما لاحقا من الكويكبات المجاورة. وجاءت مستعمرة “أنويل” وفق وصفه بأنهما أسطوانتان متجاورتان تدوران بحركة عكسية لغرض إلغاء أي تأثيرات جيروسكوبية من شأنها أن تصعب إبقاءهما موجهتين نحو أشعة الشمس بشكل متكافئ.

كلا الأسطوانتين يبلغ قطرهما 800 متر وطولهما 32 كيلومترا، وتتصلان ببعضهما عند الطرف بقضبان تبقيهما عند نفس المسافة الفاصلة. وبفضل الحركة الزاوية، تتولد جاذبية صناعية، وللوصول إلى تأثير جاذبية مشابهة لتلك التي على الأرض، فإن على الأسطوانة أن تدور حول نفسها حوالي 28 مرّة في الساعة.

الملياردير الأمريكي “جيف بيزوس” مؤسس شركة أمازون يفكر مليا بإنتاج مركبة فضاء عملاقة تستقبل البشر

 

وبفضل الجاذبية الصناعية في هذا النموذج الأسطواني، سيحظى سكان المستعمرة بتجربة فريدة، إذ ستتاح الفرصة للجميع العيش على امتداد مساحة الأسطوانة الداخلية في أيّ جهة دون الشعور باختلال في قوة الجاذبية. مما يعني أن رؤية المنازل والأبنية والبشر وكلّ شيء ستكون رأسا على عقب.4

وقد ظهر في عام 2019 أحد أبرز الشخصيات الرائدة على مستوى العالم اليوم، وهو الملياردير الأمريكي “جيف بيزوس” مؤسس الشركة العملاقة أمازون، متحدثا عن دعمه في تطوير هذا النموذج الذي من شأنه أن يقفز بالحضارة البشرية إلى مستوى آخر.

ليس هذا فحسب، فـ”بيزوس” يرى أنّ هذه المستوطنات البشرية من شأنها أن تكون أكثر مثالية من الأرض إذا ما استطعنا تدارك جميع الأخطاء التي وقع ارتكابها على الأرض من تلوث بيئي مستمر. كما أنه بوجود تقنيات متطورة، من الممكن أن تستوعب مليون شخص في الأسطوانة الواحدة.5

وفي المقابل طوّرت وكالة ناسا الفضائية نموذجها الخاص للمستعمرات البشرية، مستعمرة ستافورد المستديرة العملاقة، وقد تستوعب ما بين 10-140 ألف نسمة. مع سرعة دوران تصل إلى دورة في الدقيقة.

أبنية الفضاء.. بيئة تزاوج بين الهندسة والعمارة

لا يختلف الأمر كثيرا في الفضاء عن ما هو على الأرض على صعيد البناء والإعمار، وقد تحدثت عن ذلك “أناستاسيا بروسينا” مؤسسة شركة “ستيلر أمينيتيز” (Stellar Amenities) الرائدة في تصميم الموائل والمساكن الفضائية، وهي تشير إلى أنّ العلاقة تزاوجية بين الهندسة والعمارة، فعلى سطح الأرض يضع المعماري في بادئ الأمر تصميمه، ثمّ يحاول المهندس إنشاء البناء وفق الضوابط الهندسية، وهذا ما يحدث في الفضاء لكن بطريقة معاكسة. فالمهندس يضع أساسياته في البناء التي تضمن سلامة الإنسان والمعدات الإلكترونية، ولاحقا يحاول المعماري أن يعمل في المساحة المتاحة له.

وبطبيعة الحال، تختلف مواد البناء في الفضاء، وتخضع لاختبارات أكثر دقة وحساسية نظرا لخطورة بيئة الفضاء التي جاء ذكرها آنفا من أشعة ضارة وتقلبات متفاوتة في درجات الحرارة وخطورة النيازك الدقيقة. ومن حسن الحظ أنّ مهندسين عظماء تركوا إرثا كبيرا وحديثا مفصلا في هذا الجانب.

فعلى سبيل المثال أوصى العالم “فون براون” بأن تبنى محطته الفضائية التي على هيئة العجلة، من 20 جزءا من البلاستيك المرن، ليحتوي كل منها على النايلون والقماش، فيجري تركيبها في الفضاء ونفخها بالهواء فتصبح جسما ثابتا صلبا في نهاية المطاف.

في سبعينيات القرن الماضي، طرحت وكالة الفضاء ناسا فكرة بناء مستعمرة يقطنها الناس في الفضاء

 

وأما نظرية “أونيل” فقد أشارت إلى أنّ المواد المستخدمة في عملية البناء ينبغي أن تستخرج من القمر ومن الكويكبات المجاورة التي يُعتقد بأنها مصدر جيد لسبائك النيكل والحديد، وكذلك البلاتين والكربون.

ولم يقف “أونيل” عند هذا الحدث، بل ذكر في بحثه أنّ استغلال القمر بسبب ضعف جاذبيته وانعدام غلافه الجوي يجب أن يوضع في الحسبان عن طريق إنشاء مصانع آلية تقوم باستخراج المواد الخام من تربة القمر وإرسالها إلى المستعمرات البشرية، وهو ما أطلق عليه “بذرة الصناعة” الفضائية.

وفي عام 1977 نشرت وكالة ناسا كتيبا بعنوان “مستوطنات الفضاء.. دراسة تصميم” متناولا خطة مفصلة لإنشاء مستعمرة الفضاء ستانفورد. وقد ذكرت الوكالة بعض التفاصيل المتعلقة بمرافق البناء، وأهمية إنشاء ورشة ماكينات على القمر، وطواحين للدرفلة ومكابس قذف وأحواض صب ومعدات تصنيعية أخرى.6

وفي الختام نقول إن الوصول إلى الفضاء لم يكن في تاريخ الحضارة البشرية أسهل مما هو عليه اليوم، والحديث عن بناء مستعمرات بشرية عائمة لا ينبغي أن يكون ضربا من خيال في ظل الإمكانيات التي خوّلت للإنسان بناء نموذج مصغّر من المستعمرات، وهو محطة الفضاء الدولية التي منحت بُعدا آخر للبشرية، فمنذ قرابة عشرين عاما متتالية، كان ثمّة حضور دائم للإنسان في الفضاء.

 

المصادر:

[1] محررو الموقع (2004). البقاء على قيد الحياة في ظروف قاسية في الفضاء. تم الاسترداد من: https://www.esa.int/Science_Exploration/Space_Science/Extreme_space/Surviving_extreme_conditions_in_space#:~:text=Space%20is%20one%20of%20the,with%20is%20that%20of%20launch.

[2] ويليمز، ماثيو (2021). تحديات بناء الموائل البشرية في الفضاء. تم الاسترداد من: https://interestingengineering.com/the-challenges-of-building-human-habitats-in-space?utm_source=Facebook&utm_medium=Article&utm_campaign=organic&utm_content=Dec11&fbclid=IwAR3pLtgicwAR8RmZfiT-7fvo_JN0l1VBuoMmJCUuEMt7_ppG9QYeHjE1sNE

[3] كوهد، تشلسي (2019). نعم، فكرة فندق “فون براون” تبدو شاذة. لكن هل يمكننا بنائها بحلول عام 2025؟. https://www.space.com/gateway-foundation-von-braun-space-station.html

[4] كانشوالا، حسين (2022). ما هي أسطوانة أونيل؟. تم الاسترداد من: https://www.scienceabc.com/nature/universe/what-is-oneill-cylinder.html

[5] ماكجلينون، براين (2019). أسطوانة أونيل: رؤية جيف بيزوس لـ”حضارة مثالية” في الفضاء تدعم النظم البيئية بأكملها. تم الاسترداد من: https://medium.com/@lynwerkledges/the-oneill-cylinder-jeff-bezos-vision-for-an-incredible-civilisation-in-space-fef75b499710

[6] ويليمز، ماثيو (2021). تحديات بناء الموائل البشرية في الفضاء. تم الاسترداد من: https://interestingengineering.com/the-challenges-of-building-human-habitats-in-space?utm_source=Facebook&utm_medium=Article&utm_campaign=organic&utm_content=Dec11&fbclid=IwAR3pLtgicwAR8RmZfiT-7fvo_JN0l1VBuoMmJCUuEMt7_ppG9QYeHjE1sNE

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!