من مكان إصابته.. المقدسي مراد قمبز يروي قصة فقدان عينه برصاص الاحتلال “فداءً للأقصى”

أصيب مراد قمبز نهاية رمضان الماضي برصاص الاحتلال الذي أفقده عينه، وقال -بينما يقف عند سور المسجد الأقصى الشرقي القريب من باب الرحمة- “بقي دمي هنا 4 أشهر، سقط جزء من عيني في الأقصى، وأرجو أن يشهد لي”.
فلسطين المسجد الأقصى يعتبر مراد قمبز أن عينه سبقته إلى الجنة وشهدت على حبه للأقصى جمان أبوعرفة_الجزيرة نت 2022
مراد قمبز يرجو أن تكون عينه قد سبقته إلى الجنة وشهدت على حبه للمسجد الأقصى (الجزيرة)

القدس المحتلة- حين اعتكف في المسجد الأقصى المبارك نهاية شهر رمضان الماضي، لم يتوقع المقدسي مراد مالك قمبز أنه سيغادر اعتكافه من دون عينه اليسرى، بل سيشهد أحد أعنف وأدمى المواجهات هناك، و سيترجم شعار “عيوننا فداء للأقصى”، الذي ردده منذ صغره.

ومع حلول شهر رمضان المبارك، تقترب الذكرى السنوية الأولى لما عُرف باقتحام 28 رمضان (سنة 1442 هجرية) الذي وافق العاشر من مايو/أيار 2021، حين اعتدت قوات الاحتلال على آلاف المعتكفين داخل المسجد الأقصى لإبطال اقتحام المستوطنين في ما يسمى يوم “توحيد القدس”، مما أدى إلى إصابة أكثر من 330 فلسطينيا واعتقال العشرات، وإيقاف الاقتحامات 19 يوما.

حين قابلنا مراد قمبز (38 عاما)، وجدناه شابا دمثا متعاونا يحكي تفاصيل إصابته كأنه يرويها لأول مرة، ولا يتذمر من اللقاءات الإعلامية رغم كثرتها، لأنه يرى أن سكوته وانطواءه سيرهب الناس، فقرر أن يكون مثالا حيّا على حب وفداء الأقصى.

للاستخدام الداخلي فقط - فلسطين_المسجد الأقصى رغم خسارة عينه عاد مراد قمبز إلى الأقصى بعد تعافيه مباشرة_الصورة من أرشيف مراد مع الإذن بالنشر
رغم خسارة عينه عاد مراد قمبز إلى الأقصى بعد تعافيه مباشرة (الجزيرة)

آخر ما رأت عينه

يعود قمبز إلى يوم إصابته، ويروي -للجزيرة نت- كيف صلى الفجر مع أشقائه الثلاثة، وبقي حتى الضحى ليختم وِرده القرآني الرمضاني. كانت ساحات الأقصى وقتها مليئة بالمعتكفين لصد الاقتحام المعلن. وقبل الثامنة بقليل، لاحظ قمبز مجموعات من جنود الاحتلال تتمركز أعلى باب السلسلة، وبعدها بلحظات رأى الشبان يتساقطون أرضا بعد إطلاق الرصاص المطاطي صوبهم.

يقول قمبز “تفرّق إخوتي في رحاب الأقصى، ولجأت أنا إلى المصلى القبلي، وهناك أطلقوا علينا قنابل الغاز، رأيت الشيوخ والشبان والأطفال يتلوون أرضا بعد اختناقهم بالغاز، والجميع يتشبث بالنوافذ ليتنفس، رفعت أصبعي فلم أره من كثافة الغاز”، قبل أن يتمكن من الخروج نحو الهواء الطلق.

“يلا نشتغل شغل صح” جملة قالها الضابط باللغة العبرية لجنوده، ليبدؤوا بعدها حملة لطرد جميع المصلين، فتوجه مئات الشبان نحو الطريق الملاصقة للسور الشرقي، بعيدا عن القنابل والرصاص.

ويقول قمبز “وقع تزاحم شديد، كان الجنود يتربصون بنا قرب باب الرحمة في نهاية الطريق، لم ينجو من المصلين أحد، كل من مر من هناك نال نصيبه من الرصاص أو الضرب الشديد”.

توقعت الشهادة

وبينما يقف قرب المكان الذي أصيب به عند سور المسجد الأقصى الشرقي القريب من باب الرحمة، قال قمبز “بقي دمي هنا 4 أشهر، سقط جزء من عيني في الأقصى وأرجو أن يشهد لي”.

وتابع “استهدفني أحد الجنود برصاصة مطاطية مباشرة في عيني اليسرى، ومن قوتها تخدر وجهي بالكامل، لم أستطع المشي وسقطت أرضا، رأيت الدم يتدفق من رأسي وأنفي وعيني، أغمضت عيني اليمنى فلم أر شيئا، وخلال ثوانٍ مر شريط العمر أمامي، رجوت من الله الشهادة، ورفعت السبابة ورددت الشهادتين 3 مرات أمام الجنود”.

وحينها أيضا، ناجى الشاب ربه وهو مضرج بدمائه على أرض الأقصى  “يا رب أنت أعلم بحالي ولماذا أنا هنا ولماذا أصبت”، قبل أن يجتمع عليه جنود الاحتلال ويشتمونه بأبشع الشتائم بالعبرية والإنجليزية والعربية، مرددين “مُت، مت، مت”.

للاستخدام الداخلي فقط - فلسطين_المسجد الأقصى_ آثار دماء مراد قمبز على أرض الأقصى والتي بقيت 4 أشهر_صورة من أرشيف مراد_مع الإذن بالنشر
صورة من أرشيف مراد قمبز تظهر آثار دمائه على أرض الأقصى والتي بقيت لمدة 4 أشهر (الجزيرة)

نزيف طويل

بين المصابين كان شقيقه الأكبر محمد، الذي كُسرت بعض أضلاعه في أثناء اعتداء قوات الاحتلال، ويقول قمبز إن الله قدّر أن يصاب شقيقه ويتأخر عن اللحاق به. ويضيف “اقترب أخي لينقذني، فقلت له بالله عليك أن تتركني وتنجو بنفسك، أنا بسلّم الأمانة (أي أنا أموت)”، فقال لي “لن أتركك حتى لو كلفني ذلك روحي”.

بعد نحو 20 دقيقة من إصابته، اتكأ مراد على شقيقه المصاب ومشيا حتى وصلا مركبة الإسعاف الكهربائية داخل الأقصى، التي نقلتهم عبر باب الأسباط إلى مستشفى المقاصد في جبل الزيتون، وهناك أجريت له عملية جراحية لاستئصال العين بالكامل. وأفاد التقرير الطبي آنذاك بإصابته بتمزق في الحاجب وتهتك في العظام حول العين.

انتشر مقطع مصوّر لقمبز بعد خروجه من العملية وهو يردد “الحمد لله رب العالمين، في سبيلك يا رب، وكرمال عيونك يا أقصى، لو بنفديك بأعيننا إحنا مقصرين”.

ينظر إلى المقطع حتى اليوم ويتعجب من ثباته، ويقول “فقدان العين أمر صعب جدا، كان منظر الإصابة فظيع، والألم لا يحتمل، لكن الله أنزل على قلبي طمأنينة، وثباتا لم أكن لأصمد بدونه، حتى أنني وجدت أطفالي يرددون كلمات المقطع من بعدي فازددت ثباتا”.

إصرار أكبر

بعد استئصال عينه أجرى قمبز عملية لزراعة عين زجاجية في الأردن، لكنه حتى بعد عام من الإصابة ما زال يعاني من آلام يومية تزداد حدة مع البرد، حتى أن صداعا شديدا رافقه أشهرا بعد إصابته.

يقول قمبز “أنا أرتدي نظارة طبية أصلا، وبعد إصابتي فقدت الرؤية تماما في الجهة اليسرى، العين حبيبة وغالية، لكن عزائي أنها ستسبقني إلى الجنة، ويشهد لي موقع الإصابة في الأقصى أنني نصرته”.

لم تمنعه الإصابة من الذهاب إلى الأقصى، فقد أصرّ على الوجود فيه بعد شهرين من الحادث، خلال مواجهات مماثلة بين الاحتلال والمصلين، وقال إنه لن يتوانى عن الاعتكاف في رمضان المقبل حتى لو تكرر سيناريو العام الماضي.

ويضيف “عام 2017 في أثناء هبّة باب الأسباط، أصبت في عيني بقنبلة صوتية وفقدت البصر مؤقتا، لا أخفي أنني أخاف من فقدان عيني الأخرى لاحقا، لكن قدر الله نافذ، لن يمنعوننا عن الأقصى، ولن أقول أنني قدمت عيني واكتفي وأجلس في بيتي”.

استهداف للعيون

يقول قمبز إن عزاءه الآخر في اصطفاء الله له من بين آلاف المصلين الذين كانوا في الأقصى آنذاك، مؤكدا أن الاحتلال تعمد استهداف الجزء العلوي من الجسد، بتوجيه الرصاص إلى الرأس والعين والرقبة، مما أدى إلى حصيلة إصابات مختلفة بين صفوف المصلين، بينما فقد 3 غيره أعينهم في اليوم ذاته، وآخر قبله بيومين.

بابتسامة واثقة ورضا تام يختم قمبز حديثه قائلا “أصبت وأنا صائم في أقدس البقاع والشهور، وكنت أعزل مثل باقي المصلين، الاحتلال هو من اقتحم مسجدنا واعتدى علينا. أنا أحب الحياة لكن بشرط أن تكون كريمة، هذا ما رباني عليه والدي و سأربي عليه أطفالي الأربعة”.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!