هل قررت أمريكا استبدال علاقاتها مع تركيا والتعاون مع اليونان؟!

يبدو أن أحد أهم أهداف واشنطن من توسيع نطاق تعاونها الاستراتيجي والعسكري والاقتصادي مع أثينا، هو استهداف تركيا، وإيصال رسالة مفادها أن أوان استبدال الحليف التركي قد اقترب!
بايدن وأردوغان

كلما تزايد حجم التعاون الأمريكي اليوناني زادت حدة المخاوف التركية من المغزى الحقيقي الكامن وراء ذلك التطور اللافت، مخاوف يراها البعض مبالغاً فيها خصوصاً في ظل المقولة التي تؤكد دوماً على عمق العلاقات الاستراتيجية التي ربطت بين واشنطن وأنقرة على مدى عقود طويلة، والتي يصبح من الصعب إنهاؤها أو تجاوزها بهذه السهولة.

أصحاب هذا الرأي يتجاهلون التطورات التي تحدث دوما على الساحة الدولية، وحجم التغيرات التي تنال من التحالفات المعروفة وفق اختلاف خريطة مصالح كل دولة عن الأخرى، وسعي الجميع إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على الأصعدة كافة، حتى وإن كان المقابل لهذا فك الارتباطات والتحالفات القديمة وبناء غيرها وفق المكاسب التي يمكن الوصول إليها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استثناء علاقة تركيا بواشنطن من هذه المعادلة التي أصبحت تتحكم في مجمل العلاقات الدولية.

الشريك المزعوم

ولعل وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لتركيا مؤخرا بأنها ” شريك استراتيجي مزعوم” وأن فكرة وجود شريك استراتيجي على علاقة وثيقة بروسيا هي ” فكرة غير مقبولة”، يوضح ما آلت وما يمكن أن تؤول إليه الأمور بين أنقرة وواشنطن خلال الفترة المقبلة.

إذ يبدو أن أحد أهم أهداف واشنطن من توسيع نطاق تعاونها الاستراتيجي والعسكري والاقتصادي مع أثينا، هو استهداف تركيا، وإيصال رسالة مفادها أن أوان استبدالها قد اقترب، وذلك لإثارة غضبها، الأمر الذي يبدو أنه حقق مبتغاه، إذ بدأت تصريحات المسؤولين الأتراك العسكريين والسياسيين تؤكد إنزعاجهم بالفعل من تطور العلاقات الأمريكية اليونانية، وهو ما يمكن رصده فيما أدلى به مؤخرا الرئيس أردوغان بأن اليونان تحولت إلى قاعدة عسكرية أمريكية، وذلك بعد وصول دفعة جديدة من المعدات العسكرية بصحبة مئات الجنود الأمريكيين إلى القاعدة العسكرية الموجودة في تراقيا الغربية ذات الأغلبية التركية المسلمة، وهي المنطقة نفسها التي سبق وأن شهدت تدريبات مشتركة بين قوات البلدين منذ أشهر.

ومع حصر كمية الأسلحة والمعدات التي تتدفق على القواعد العسكرية الأمريكية القديم منها والحديث داخل الأراضي اليونانية، وحجم القوات التي يتم نشرها في أكثر من 23 موقعاً استراتيجياً في كل من الكسندروبوليس، ولاريسا، وستيفانوفيكيو، وتراقيا الغربية، وخليج سودا بجزيرة كريت القريبة من الحدود التركية اليونانية، يتضح أن توصيف الرئيس أردوغان لما آل إليه الوضع داخل اليونان توصيفا دقيقا.

إذ أصبح لدى واشنطن حاليا داخل قواعدها العسكرية في اليونان 110 مروحيات من طراز (بلاك هوكس) و10 مروحيات نقل ثقيلة من طراز (شينوك) و25 مروحية هجومية من نوع (أباتشي) و 1800 مدرعة عسكرية، إلى جانب المئات من العسكريين.

هذا واستلمت البحرية اليونانية بالفعل أول خمس طائرات من طراز بي-3بى أوريون، وتقدمت أثينا كذلك بطلب لشراء سبع طائرات هليكوبتر من طراز (روميو) خلال عامي 2020 و2021 ، إلى جانب وجود مفاوضات بين البلدين بشأن صفقات سلاح تبلغ قيمتها حوالي 11 مليار دولار، وتشمل قيام واشنطن بتحديث 84 طائرة من طراز إف-16، و11 طائرة هليكوبتر من طراز (أجيان هاوك) لصالح القوات الجوية اليونانية.

وهي صفقات السلاح التي تثير العديد من علامات الاستفهام في ظل اقتصاد يوناني يعاني أزمة طاحنة، ويعتمد في تصريف أموره على المعونات من دول الاتحاد الأوربي، والديون من المؤسسات المالية العالمية، حتى أن هناك من يشكك في قيام اليونان بدفع ثمن هذه الصفقات، التي يبدو أنها تأتي في مقابل السماح بتمركز القوات والمعدات العسكرية الأمريكية على امتداد الأراضي اليونانية.

خاصة وأنه عقب تعديل اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين، التي منحت واشنطن مواقع أفضل لعمليات قواتها في شرق المتوسط، قامت البحرية الأمريكية بنقل المركبة العسكرية يو إس إس هيرشيل “وودي ويليامز” إلى قاعدتها في خليج سودا بجزيرة كريت، وهي المرة الأولى التي تتمركز فيها سفينة عملاقة تابعة للأسطول السادس الأمريكي في هذا الموقع منذ أكثر من 40 عاما.

أسباب تطوير الولايات المتحدة لعلاقاتها مع اليونان

لا يمكن إنكار أن توتر العلاقات التركية مع كل من واشنطن وأثينا كان دافعا قويا للتطور الذي تشهده العلاقات العسكرية الأمريكية اليونانية، فواشنطن لديها الكثير من المآخذ على سياسات تركيا في العديد من الملفات الإقليمية كالملف الليبي، والعراقي، والأذري، وشرق المتوسط، إلى جانب الملف السوري الذي يعد أبرز الملفات الخلافية وأكثرها سخونة بين الدولتين في ظل الرفض القاطع الذي تبديه أنقرة علنا لسياسات واشنطن وتعاملها مع قوات وحدات حماية الشعب الكردية التي تمدها بأحدث ما انتجته مصانع الأسلحة الأمريكية، والوعود التي منحتها لهم بمساعدتهم في بناء كيان سياسي لهم في مناطق نفوذ تخضع لحكم ذاتي بعيدا عن هيمنة دمشق، سواء كان ذلك عبر إعلان فيدرالية أو كونفيدرالية في الشمال السوري.

وهو الطرح الذي ترفضه تركيا بصورة قاطعة ووتصدى له بكل حزم خشية أن يشجع ذلك التوجه المواطنين الأكراد لديها للمطالبة بحكم ذاتي في مناطق تجمعهم بجنوب وشرق الأناضول مثلما هو الحال في شمال العراق وشمال سوريا.

إضافة إلى رفض واشنطن المطلق لتنامي العلاقات التركية-الروسية، ولصفقة الصواريخ إس-400 الروسية التي قامت تركيا بشرائها ردا على رفض واشنطن بيعها صواريخ باتريوت، معتبرة أن هذه المنظومة تمثل خطرا على حلف الناتو، وعلى مقاتلات إف-35 الأمريكية، مطالبة بضرورة تخلي أنقرة عن تلك الصفقة التي تسببت في فرض عقوبات أمريكية عليها وحرمانها من الحصول على طائرات إف-35 وإخراجها من مشروع الناتو المشترك لإنتاجها، وهو التصرف الذي وصفه الرئيس أردوغان “بالخطأ الجسيم” رافضا بشدة التدخل الخارجي في تحديد أولويات الدفاع عن الأمن القومي التركي.

أسباب تعاون واشنطن عسكرياً واستراتيجياً مع أثينا

التسارع المستمر في وتيرة التعاون العسكري المبالغ فيه بين واشنطن وأثينا يحقق دون شك الكثير من المصالح الاستراتيجية لكلا الدولتين، فالإدارة الأمريكية التي يرأسها جو بايدن ترى أن منطقة شرق المتوسط تعد أحد أهم ساحات التنافس الحيوية بينها وبين كل من روسيا والصين، خصوصا في ظل توسيع بيجين لنطاق علاقاتها التكنولوجية والاقتصادية مع دول الاتحاد الأوربي، مما يعني إمكانية تأسيس شراكة اقتصادية وسياسية وأمنية أكثر عمقا بين بيجين وحلفاء واشنطن في شرق المتوسط، بما يعد تهديدا مباشرا للمصالح الأمريكية في هذه البقعة من العالم، وخروج حلفائها الأساسيين عن نطاق سيطرتها.

لهذا يرى كثير من المستشارين في إدارة بايدن إن زيادة حجم التعاون مع اليونان، في ظل ارتفاع حدة الخلافات وتضارب المصالح مع تركيا، أصبح أمرا ضروريا وملحا كونه يمنح واشنطن القدرة على التصدي لمحاولات الاختراق الصيني للمنطقة، ويؤمن لها في الوقت ذاته وسيلة فعالة ومهمة لمواجهة أطماع روسيا التي تسعى لإيجاد موطئ قدم لها في شرق المتوسط عبر الأراضي الليبية والسورية، بالتعاون مع تركيا.

مكاسب اليونان من شراكتها مع الولايات المتحدة الأمريكية

أما اليونان فإن تعزيز علاقات شراكتها العسكرية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية من شأنه أن يسهم -وفق وجهة نظرها- في لجم إندفاع تركيا، ويضع حدا للطموح غير المحدود للرئيس أردوغان، الأمر الذي يهدد سيادة اليونان وثرواتها على حد وصف وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس.

فأردوغان يعارض معاهدة لوزان المبرمة عام 1923 التي حددت الحدود الجغرافية بين تركيا واليونان، وينتظر بفارغ الصبر عام 2023 لإعادة صياغتها بمناسبة مرور مئة عام على إبرامها، وهو ما يثير مخاوف اليونانيين خصوصا وأنه في حال اندلعت حرب بين الدولتين فإن ميزان القوى العسكرية بين البلدين يميل لصالح تركيا، وبالتالي فوجود قوات أمريكية على أراضيها يعد حائط صد أمام أي تحرك عسكري تركي.

بالإضافة إلى رفض أردوغان محاولات التنقيب عن الغاز شرق المتوسط بصورة منفردة من جانب اليونان أو جنوب قبرص حفاظا على حقوق الأتراك وشمال قبرص في ثروات المنطقة، وهو ما يعيق محاولات اليونان للخروج من أزمتها الاقتصادية عن طريق استثمار ثروات المنطقة بالشراكة مع كل من مصر وإسرائيل، الأمر الذي تشجع عليه واشطن وتدعمه بقوة، وترفضه تركيا.

ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعلن صراحة عزمها تحويل استراتيجية وجودها العسكري بالكامل نحو اليونان بديلا عن تركيا، إلا أن تضارب المصالح بين الدولتين والرفض الواضح من جانب الإدارة الأمريكية لسياسات الرئيس أردوغان، واعتراف إدارة بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن، ورغبتها في السيطرة على ثروات شرق المتوسط، كلها أمور تشير إلى أن العلاقات الأمريكية-التركية في طريقها إلى اتخاذ منحى جديد مختلف عما كان عليه الوضع قبل عقود.

شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!