الفن القوطي: من التمرد والتصوف إلى عوالم الرعب

القاهرة ـ«القدس العربي»: لا يُذكر اسم الأسلوب أو العصر القوطي، إلا وتستدعي الذاكرة الأقبية والسراديب والإضاءة الخافتة، وحِس المؤامرة ووشوك وقوع جريمة أو شر مقيم في المكان. هذه الأجواء الغرائبية التي تثير الرعب، بدأت مع البنايات الدينية والقصور المهجورة، وأكدتها مخيلة الأدباء في رواياتهم التي أصبحت نموذجاً لما أطلق عليه «(أدب الرعب» ولكن ماذا عن هذا العصر، الذي ظهرت أفكاره ومعتقداته خاصة في مجال العمارة، ومنها انتقلت إلى معظم فروع الفن، من الموسيقى وحتى الأدب؟

الفن القوطي: من التمرد والتصوف إلى عوالم الرعب

[wpcc-script type=”20814a6969938ae06d87d783-text/javascript”]

القاهرة ـ«القدس العربي»: لا يُذكر اسم الأسلوب أو العصر القوطي، إلا وتستدعي الذاكرة الأقبية والسراديب والإضاءة الخافتة، وحِس المؤامرة ووشوك وقوع جريمة أو شر مقيم في المكان. هذه الأجواء الغرائبية التي تثير الرعب، بدأت مع البنايات الدينية والقصور المهجورة، وأكدتها مخيلة الأدباء في رواياتهم التي أصبحت نموذجاً لما أطلق عليه «(أدب الرعب» ولكن ماذا عن هذا العصر، الذي ظهرت أفكاره ومعتقداته خاصة في مجال العمارة، ومنها انتقلت إلى معظم فروع الفن، من الموسيقى وحتى الأدب؟

الفن القوطي

أطلقت كلمة «قوطي» على الفن في أواخر القرون الوسطى، خاصة من منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، حتى عام 1400، وقد نشأ اسم قوطي، مع مثقفي النهضة الإيطالية المعروفين بـ «الإنسانيين» وينسب إلى قبائل القوط الجرمانية، التي اجتاحت إيطاليا، حيث يعتبر الإنسانيون أن فن القرون الوسطى من إنتاج القوط الهمج. لكن هذا التعريف المدرسي يقابله تعريف آخر، وهو أن هذا الأسلوب أو الرؤية الفنية ازدهر في غربي أوروبا في الفترة الممتدة بين منتصف القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر الميلاديين. وكلمة قوطي أصلها مصطلح اشتُقَّ من كلمة تعني الرَفْض والتمرد، واستخدمها الفنانون والكتاب في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، الذين أرادوا إحياء العمارة الكلاسيكية لقدماء الإغريق والرومان في أوروبا. وعارض كثير من الفنانين والكتاب التصاميم القوطية المعقدة وغير المنتظمة التي اختلفت كثيراً عن النمط الكلاسيكي المعهود وقتها.

العمارة

كان الفن القوطي عامة، فناً مسيحياً خضع لتأثير القديس برنارد. وكان عليه بذلك أن يتضمن الموضوعات الدينية والصور الرمزية التي تمثل العواطف الداخلية، أي تمثل مواقف الأشخاص وانفعالاتهم وتعابير وجوههم، مع المبالغة أحياناً ولاسيما في ألمانيا في الموضوعات التي تمثل الموت والأساطير. (راجع .. عفيف البهنسي، تاريخ الفن والعمارة ــ دار الشرق للنشر، دمشق 2004(. وتتميز العمارة القوطية بخصائص جمالية مستقلة، أولها الاهتمام بالخطوط المستقيمة ولاسيما الخطوط الشاقولية المتوازية، والتي ربطت عناصر البناء ومفرداته المعمارية مع بعضها، كما امتازت بتطوير أبراج الأجراس، والتركيز على استخدام التماثيل الشخصية لتغطية الواجهات، واستغلال الصور الزجاجية الملونة التي تشكل النوافذ والزهريات الدائرية لاستقبال النور الخارجي لإضاءة المنشآت، وأكثرها كانت كاتدرائيات ضخمة أشهرها كاتدرائية نوتردام في باريس. ولم تكن العمارة القوطية مقتصرة على الكاتدرائيات، بل امتدت لجميع أشكال العمارة، وأهمها القصور الملكية أو قصور العدل، وبعض الحصون. فالجدران على سبيل المثال كانت رقيقة وذات دعامات أخف من تلك التي كانت في كنائس الرومانسك. وكثير من هذه الدعامات مكونة من مجموعات من الأعمدة بارتفاع عدة طوابق. وقد مد المعماريون القوطيون الدعامات إلى السقف، ثم قوّسوا كل عمود في شكل أضلاع مثل المظلة المفتوحة، وسدوا الفراغات بين الأضلاع بالحجر. وكانت تلك الأقبية المضلعة ضمن أهم الخصائص التي تميزت بها العمارة القوطية. وهناك مظهر آخر للطراز القوطي هو العقود المدبَّبة والاستعاضة عن أجزاء كبيرة من الجدران بنوافذ ذات زجاج ملون. ويلاحظ أن الكثير من النسب في العماره القوطية محسوبه على أساس قامة الإنسان، ومن أمثلة ذلك نسبة الأبواب إلى المباني فهي ليست محسوبه على أساس ضخامة المباني، بل باعتبار قامة الإنسان، ومن أشهر المعالم المعمارية لهذا الفن، كاتدرائية نوتردام دي باري وشارترواميان في فرنسا وكولون وستراسبرغ في المانيا.

النحت

كما هي العمارة القوطية امتداد ناضج للعمارة الرومية كذلك شأن النحت. ويتضح التقارب بين أسلوبي النحت في تماثيل المدخل الملكي لكاتدرائية شارتر. ثم يتطور النحت القوطي نحو أسلوب أقرب إلى الواقع الصوفي، إلى أن يصبح في كاتدرائية ريمز، أكثر حيوية وعاطفية، ولاسيما في تماثيل الملاك الباسم، ويوحنا المعمدان، والمسيح والقديس يوسف. ولم يقتصر النحت القوطي على تماثيل أشخاص بذاتها، حتى وإن كان الموضوع تاريخياً دينياً مثل تمثال «العذراء والطفل» للنحات نينو بيزانو، بل تجاوز ذلك إلى تمثيل مشاهد كاملة من النحت البارز، مثل ولادة يوحنا المعمدان لجيوفاني بيسانو في كاتدرائية بيزا، ومشهد «غفوة العذراء» في بوابة كاتدرائية ستراسبورغ. تفنن المثالون القوط في عمل تماثيلهم متخذين من الطبيعة نموذجا لهم، فتماثيل الرجال والشيوخ تتمثل في القديسين أو الملوك والأمراء، وتماثيلهم النسائية تتمثل في الملائكة. وقد وصل فن النحت القوطي إلى أقصى ازدهاره في فرنسا وخاصة في القرن الثالث عشر، أما في انكلترا فلم يبلغ هذه المرتبة لعدم قبول البروتستانت وجود تماثيل في كنائسهم. وقد استنبط النحاتون زخارفهم من الوسط المحيط بهم فزخرفوا تيجان أعمدتهم بأوراق العنب واللبلاب، ونحتوا تماثيل لحيوانات خرافية ذات أشكال مخيفة، والتي تبدو كما لو كانت أشكالاً كاريكاتورية.

التصوير

يتمظهر التصوير القوطي في أشكال ثلاثة، فإما أن يكون تصويراً زجاجياً ملوناً، معشقاً بقضبان الرصاص، موزعاً في جميع النوافذ والزهريات ويمثل أحداثاً دينية، ويستعمل في هذه الصور الزجاج المقطع بألوان مختلفة أهمها، الأزرق الكوبالت والأحمر الفاقع والأخضر الحي، وتبدو هذه الصور أكثر حيوية وإشعاعاً عندما ينفذ ضوء الشمس من خلال الزجاج. ولعل الصور الزجاجية في كنيسة سانت شابيل في
فرنسا، والمخصصة للعائلة المالكة، هي من أضخم الألواح الزجاجية، وتمتد على 146نافذة وتمثل 1359موضوعاً.

الموسيقى

تعد «البوليفونية» من أهم التغيرات التي صادفتها الموسيقى وفصلاً من أهم فصولها العالمية التي ولدت في العصر القوطي، حيث تغيرت المسارات اللحنية والإيقاعية من شكلها «المونوفوني» إلى «البوليفوني» المتعدد المسارات اللحنية المتوافقة في ما بينها، وفتح هذا الشكل الجديد أمام فن التأليف الموسيقي آفاقاً جديدة ما زالت بالغة الأثر إلى يومنا هذا، وكان منبعها الكنيسة الكاثوليكية والقوى الروحية القوطية الجريئة التي حاولت الجمع بين صرامة الألحان الكنسية القديمة وعناصر لحنية مستمدة من سحر أنغام عهد الفروسية كالتروبادور والترينر، وبعض الفرق الموسيقية من المهنيين وأصحاب الحرف الذين يمتازون بحبهم للحرية، حيث ساعدت هذه الفرق الموسيقية الشعبية على نقل بعض الآلات الموسيقية من العالم الإسلامي عن طريق اسبانيا والحروب الصليبية، مثل، المزامير والسرناي والسنطور والقانون. وهكذا دارت الأغاني حول الغزل والحب فظهرت المرأة في الأغاني والموسيقى لأول مرة منذ العصور القديمة، وأصبح للفن الدنيوي مكان، كما لم يقف الغناء الدنيوي عند الغناء الفردي الذي تصحبه آلة موسيقية، بل تكيف تدريجيًا مع البوليفونية التي كانت مقصورة حتى ذلك الوقت على ألحان الكنيسة.

الأدب

لجأ الأدب إلى الأسلوب القوطي كرد فعل على قمع العواطف والعقل والمنطق والعقلانية العلمية الخاصة بالقرن الثامن عشر. فعلى العكس من العقلانية، انشغلت القوطية بالعاطفة والشغف والجنس والفزع، فجاء الأمر أقرب إلى إحياء رومانتيكية القرون الوسطى. فالعالم لم يزل غامضاً وغير معروف أو موثوق العواقب، هناك شيء خفي مجهول، ومثير في الوقت ذاته، ومن هنا دارت الحكايات في المناخ القوطي، بكل ما يحمله من غموض وآثاره الدالة على الارتباط ما بين المقدس والأسطوري، وهي بيئة صالحة تماماً لاختبار الفلسفات والرؤى القديمة، مع ملاحظة أن نشأة الفن القوطي أو هذا الفكر، جاء بعد استبداد رجال الكنيسة في ما يعرف بـ «محاكم التفتيش». فمنذ أعمال ماري شيلي وإدغار آلان بو وبرام ستوكر، وصولاً لأعمال ستيفن كنغ، وحتى أمبرتو إيكو في «اسم الوردة»، لم يزل هذا العالم يجذب الكثيرين للبحث والكتابة والتفكير من خلاله، ناهيك عن عدد الأفلام الذي لا يحصى المستمد من حكايات تلك الفترة، رغم تباين مستواها الفكري والفني.

الفن القوطي: من التمرد والتصوف إلى عوالم الرعب

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!