الغضب: فرصة حقيقية لاكتساب مهارة احتواء الآخر، واحترام حريته واختلافه

نحن نعيش في هذه الحياة مُتعرِّضين في كلِّ يومٍ منها إلى كمٍّ كبيرٍ من المواقف والأشخاص الإيجابيين والسلبيين، إذ أصبحنا أمام تحدٍّ كبيرٍ وغايةٍ ساميةٍ تتمثَّل بالمحافظة على هدوئنا وتوازننا النفسي؛ ولكن للأسف، أعلن الكثير من الأشخاص بسرعةٍ خسارتهم لهذا التحدِّي الهام، رافعين شعار "أنا عصبي، وأغضب بشدَّة"، غير مُدرِكين أضرار الغضب ومصائبه. دعونا نخوض سوياً في هذا المقال؛ لنكتشف لماذا نغضب، وكيف لنا أن نجد الطرائق الأكثر نجاحاً من أجل التنفيس عن الغضب في حال شعورنا به.

Share your love

لقد خُلِقنا وكُرِّمنا لنكون خلفاء اللَّه في الأرض، وعلينا العمل على تهذيب أنفسنا للوصول إلى حالة الحلم الراقية؛ فما نفع الحياة إن عشناها بفوضوية، ودون سعيٍ حقيقيٍّ إلى تطوير ذواتنا؟ وكيف سنستحقُّ الأفضل ونحن بعيدون عن الأفعال التي تُفعِّل الاستحقاق الأمثل؟

تستحقُّ الحياة منَّا بذل وإنفاق أفضل ما لدينا من أجلها، وستكون محصلة هذا السعي الظفرَ بمتعة الحياة وشغفها، وبنعيم الآخرة، فقد قال تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [سورة آل عمران: الآية 92].

السؤال هنا: هل ستعيش حياتك جاعلاً الغضبَ ملجأك الوحيد لحلِّ أيِّ مشكلة؟ أم تستحق منكَ عظمة تكوينك وعقلك البشري التفكيرَ أكثر للوصول إلى حالة الهدوء المنشودة؟ وهل ستبقى تتعامل بتقنية ردِّ الفعل؟ أم آن أوان أن تكون سيد مشاعرك وأفكارك وسلوكاتك؟

اسأل نفسك كم أضعتَ من فرصٍ قَيّمةٍ من جرَّاء سوء إدارتك لغضبك؟ وكم خسرت من أصدقاء لمجرَّد سوء تفسيرك لمواقفهم، حيث آثرتَ الاستشاطة غضباً وإنهاء العلاقة عوضاً عن تفهُّمهم وحسن الظَّن فيهم؟ ألم يحن الوقت لوقفةٍ أكثر عمقاً مع ذاتك بغرض مواجهة جانبك المُظلِم، والعمل على تقبُّله وتحويله إلى جانبٍ نورانيٍّ راقٍ؟

دعونا نخوض سوياً في هذا المقال؛ لنكتشف لماذا نغضب، وكيف لنا أن نجد الطرائق الأكثر نجاحاً من أجل التنفيس عن الغضب في حال شعورنا به.

ما هو الغضب؟

الغضب عبارةٌ عن مشاعر سلبيَّةٍ يشعر بها الإنسان نتيجةً لرفضه شيئاً ما، أو لرغبته في السيطرة والتحكُّم بشخصٍ آخر لا يشاركه آراءَه.

يؤدِّي استمرار شعور الإنسان بالطاقة السلبية الناتجة عن الغضب إلى الكثير من الأمراض النفسية والعضوية، مثل: أمراض الضغط والسكري والكولون، واضطرابات القلق والتوتر وغيرها؛ كما يستحث الكثير من السلوكات الخاطئة، ويُشوِّه التفكير المنطقي للإنسان بنسبة (70-80%)، ويُحرِّض السلوك السلبي لدى الشخص الآخر، حيث تجذب الطاقة السلبية طاقةً سلبيةً مقابلة.

ما الأسباب الكامنة وراء الغضب؟

1. عدم تقدير قيمة الحرية:

عندما يغضب شخصٌ ما من الآخر بسبب رفضه القيام بأمرٍ كان قد طلبه منه، أو بسبب قيام الأخير بتصرُّفٍ كان قد حذَّره منه الشخص الأول؛ يكون هذا الغضب بداعي التحكُّم والسيطرة على الآخر، وعدم الوعي بقيمة الحريَّة.

لقد خلقنا اللَّه أحراراً، وقدَّس حرية الاختيار لدى الإنسان، حيث قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [سورة الكهف: الآية 29]؛ فإذا كان اللَّه عزَّ وجل قد وهبنا هذه الحريَّة المطلقة المُتعلِّقة بجزئيةٍ خطيرةٍ جداً كالإيمان، فهل يحقُّ بعد ذلك لبشريٍّ على وجه الأرض التعدِّي على حرية الآخر وفرض ما لا يريد عليه؟

يقول تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [سورة البقرة: الآية 256]، وقال تعالى أيضاً: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [سورة الشورى: الآية 48]، و قال أيضاً: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [سورة الغاشية: الأيتين 21-22]؛ في هذه الآيات دلالةٌ قاطعةٌ على أنَّ واجب الإنسان تبيان الأمر للآخر، أمَّا ما تبقَّى فهو عائدٌ للآخر، ويملك كامل الحرية في تبنِّي كلامك أو عدم تبنِّيه، ويتحمَّل هو عاقبة الأمر كاملاً.

2. إطلاق الأحكام، وعدم الفصل التام بين الشخص وسلوكه:

يميل معظم الأشخاص إلى إلقاء الاتهامات والأحكام السلبية على الآخرين في حال إظهارهم سلوكاتٍ مغايرةً لسلوكاتهم أو قيمهم، فتجدهم يغضبون بشدةٍ لمجرَّد اختلاف شخصٍ عنهم، غير مُدركين أنَّ لكلٍّ أسبابه الخاصَّة للقيام بأمرٍ ما، وأنَّ علينا احترام اختلاف الآخر عنَّا؛ فليس من ضمن صلاحياتنا إصدار الأحكام، إذ من شأنه أن يُضفِي على حياتنا الكثير من السلبية.

تنشط مشاعر الغضب في حال الخلط بين الشخص وفعله، فإذا وجَّهنا إلى شخصٍ ما كلاماً سلبياً من جرَّاء غضبنا من سلوكه، وقلنا له: “أنت غبيٌّ ومُستهترٌ ولا تنفع لشيء”؛ فمن شأن ذلك أن يولِّد ردة فعلٍ عكسيةً لديه، ويجعل منه شخصاً عنيداً، فيصرُّ على القيام بالسلوك ذاته رغم قناعته الداخلية بأنَّه سلوكٌ خاطئ؛ ولن يُحقِّق هذا الأسلوب المنفعة لأيٍّ من الطّرفين.

لو أنَّنا اتبعنا أسلوب الفصل بين الشخص وسلوكه، لأحرزنا التقدم المنشود؛ فعلى سبيل المثال: لو وجَّهنا إلى الشخص العبارة التالية: “أنت شخصٌ رائع، وأنا أحبُّك، لكنَّ تصرُّفك في ذاك الموضوع كان خاطئاً”، فقد يكون من شأن هذه العبارة خلق السلام بين الطرفين، وتوجيه العقل إلى إيجاد الحلول الإيجابية لتصويب السلوك وتعديله.

3. طريقة تفسيرنا للأمور:

ماذا لو أنَّ تفسيرنا للأمور يُحدِّد مستوى غضبنا؟ فمثلاً: ستغضب الأمُّ التي تُفسِّر سلوكات ابنها على أنَّه: “غير مؤدَّب، وثرثار، وفضولي، وغبي”، وتخطئ التعامل مع طفلها؛ في حين لو أنَّها فسَّرت تصرُّفاته على أنَّه: “ذكي، وعاشقٌ للاستكشاف، ونشيط،”، فمن شأن ذلك أن يُثلِج قلبها ويمنحها طاقةً إيجابيةً من أجل تربية طفلها.

4. السماح للظروف بالتحكُّم بك:

سيتحوَّل مَن يعيش حالة انتظارٍ وتمنٍّ وأملٍ بأن تتغيَّر الظروف من حوله، معوِّلاً على الأحداث الخارجية لتنقذه، تاركاً سعادته في يد الظروف؛ إلى إنسانٍ غاضبٍ حكماً، حيث ستنهار أعصابه في حال تردِّيها، وقد يلجأ إلى تصرُّفاتٍ طائشةٍ من منطلق إحساسه بالضيق من استمرار الظروف على حالها.

من جهةٍ أخرى، سيكون مَن يَعِي أنَّ مفاتيح سعادته بيده وحده، وأنَّه لا يوجد ظروفٌ في الكون تُثنِيه عن فعل ما يريد في حال تصميمه القوي وإيمانه الراسخ باللّه؛ هادئاً ومطمئناً ومسالماً، ويكون على يقينٍ بأنَّ اللَّه سيُسهِّل له الوصول إلى أهدافه حتَّى لو كانت الظروف أتعس ما يكون.

5. مجادلة الجاهلين:

إن كنتَ من أولئك الذين يُجادلون الجاهلين، فاستعدّ إذاً لنوبات الغضب الشديدة. قال الإمام علي (كرَّم اللَّه وجهه): “ما جادلتُ عالماً إلَّا غلبته، وما جادلتُ جاهلاً إلَّا غلبني”، إذ يتلذَّذ الإنسان الجاهل بإهانة الآخر وإيذائه، ويعشق الغرور والتعالي على الآخرين، فتجده يُجادِل أهل الاختصاص دون وجه حق، ودون مسوِّغاتٍ عقلانية، لغاية تحقيرهم فقط؛ فهو يتصرَّف كلَّ هذه التصرُّفات من جرَّاء إحساسه بالنقص وعدم احترامه لذاته.

قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: الآية 199]، فقد قدَّم لنا اللَّه عزّ وجلّ الحلَّ السليم في التعامل مع الجاهلين، وهو: تجاهلهم تجاهلاً تامَّاً.

كيف نصل إلى الهدوء؟

1. نفِّس طاقة الغضب:

نفِّس طاقة الغضب عند شعورك بها؛ لأنَّها طاقةٌ مؤذيةٌ جداً، وإيَّاك أن تكتم غضبك؛ لأنَّ كتم الانفعال يؤدِّي إلى أمراضٍ خطيرة.

لتنفيس طاقة غضبك عليك بما يلي:

  • البكاء: يعدُّ البكاء من أقوى الوسائل لتنفيس الغضب، وهو مفيدٌ للرجال والنساء على حدٍّ سواء؛ أمَّا الفكرة القائلة “لا يجوز على الرجل أن يبكي” فكرةٌ مغلوطةٌ تماماً، إذ تكمن الرجولة الحقيقية في التحكُّم في التصرُّفات لحظة الغضب، بحيث لا يفقد الرجل السيطرة على نفسه، أو يتصرَّف بطيشٍ ويضرب الشخص المُقابل، أو يُسبِّب الأذى للمكان؛ فالبكاء أجمل وأرقى تعبيرٍ عن حالة الانفعال الشديدة.
  • السجود: توضَّأ، واسجد للَّه، وتحدَّث إليه في أثناء سجودك عن الأشياء التي تُغضِبك، واطلب منه أن ينصرك، وأن يُبيِّن لك الطريق المستقيم للوصول إلى هدفك.
  • التنفُّس: جرِّب أن تتنفَّس بعمق عندما تغضب، وستجد نتائج رائعة، مثلاً: جرِّب أن تأخذ شهيقاً عميقاً، واجعل زفيرك له هادئاً، على أن تكون مدَّته تساوي ضعفي مدة الشهيق أو أكثر. كرِّر العملية 5 مرات، لتجد النتيجة المرجوَّة.

2. احترِم حقوق الآخرين:

من شأن احترام حرية الآخرين، وتقدير حقِّهم في الاختيار؛ أن يجعلك أكثر هدوءاً واتزاناً. 

3. لا تطلق الأحكام:

من شأن عدم إطلاق الأحكام السلبية على الآخرين، والتماس العذر لهم، والتعامل معهم بالنية الحسنة، والتفسير الإيجابي لتصرُّفاتهم، والفصل ما بين شخصهم وتصرُّفهم؛ أن يجعلك هادئاً مسالماً.

4. ابتعد عن الجاهلين:

من شأن ابتعادك عن الجاهلين، والتَّهرب من الدخول في جدالاتٍ معهم؛ أن يُبقِيك هادئاً مطمئناً.

5. كُن أنت القائد:

كُن أنتَ المُتحكِّم بأفكارك ومشاعرك لا الظروف المحيطة، فمن شأن ذلك أن يُبقِيك هادئاً وراقياً.

6. كُن حليماً، فاللَّه حليم:

نحن نخوض اختبار الحياة، ويلزمنا الفوز به للوصول إلى الآخرة بجدارة؛ لذلك علينا التحلِّي بالهدوء، والتركيز على أن نكون هادئين دوماً، وأخذ حقِّنا من الآخر بحكمةٍ وَرُقِيّ.

الخلاصة:

لِنَعُد إلى فطرتنا في كلِّ شيء، حيث يُفطَر الطفل على الهدوء والوداعة واللطافة؛ لذا علينا ألَّا نسمح لتجارب الحياة القاسية -أو بعض أُنَاسِهَا قليلي الوعي- بتشويه فطرتنا الجميلة.

ابقوا هادئين وراقين ومتزنين، واجعلوا الغضب بعيداً عنكم، وسترون كيف ستكافئكم الحياة.

 

المصادر: 1، 2، 3

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!