كيف تدرب ذهنك على التركيز؟

تكشف دراسة جديدة عما يحدث في الذهن في أثناء الشرود، وتسلط الضوء على الفوائد المعرفية والعاطفية المترتبة على زيادة مستوى التركيز.

Share your love

لقد مررنا جميعاً بموقف مماثل: بينما تحضر اجتماعاً أو حصَّةً درسية؛ حيث من المفترض أن تركز انتباهك على ما يجري من حولك؛ إلا أنَّ ذهنك في حالة شرود منذ فترة طويلة، ومشغول في التفكير بقائمة الأشياء التي ينبغي عليك إنجازها، أو التي كان في إمكانك تنفيذها لو لم تكن عالقاً هنا.

تلاحظ فجأة بأنَّ الجميع يحدقون باتجاهك بانتظار أن تجيب، إلا أنَّك تحدق في الهواء محاولاً استجماع تركيزك المشتت لإعطاء إجابة شبه منطقية؛ إنَّها لعنة الذهن الشارد.

لكن لا تقلق، لست وحدك من يعاني من الشرود الذهني، في الحقيقة، بيَّنت دراسة حديثة أجراها عالما النفس ماثيو كيلينغزوورث (Matthew Killingsworth) ودانييل جيلبرت (Daniel Gilbert)، عاينا فيها ما يزيد عن ألفي فرد بالغ في أثناء أدائهم نشاطاتهم اليومية، وتوصلوا إلى أنَّ أولئك لم يكونوا يركزون على ما يفعلون في 47% من الوقت، والصادم أكثر، هو أنَّ الناس يكونون أقل سعادة عندما يكونون شاردي الذهن.

لذا من الجيد إيجاد طرائق للتقليل من العوامل التي تسبب الشرود الذهني، وتحسين القدرة على التركيز، ومما يثير السخرية، هو أنَّ للشرود الذهني القدرة على مساعدتنا على رفع مستويات التركيز؛ وذلك إذا ما استثمرناه على نحو صحيح، وهو ما يمكن تحقيقه بتوظيف مهارة قديمة هي التأمل، في الواقع تكشف موجة جديدة من الأبحاث ما يحدث في أذهاننا عندما يكون انتباهنا مشتتاً، وتسلط الضوء على مجموعة من الفوائد المعرفية والعاطفية المترتبة على زيادة مستوى التركيز.

ماذا يحدث ضمن الذهن الشارد؟

ما الذي نعرفه حقاً عن أمرٍ شائع الحدوث مثل عملية تشتت الذهن؟

لآلاف السنين، وفَّرت الممارسات التي تعتمد على التفكر – كالتأمُّل – وسائلَ عدة تمكِّننا من فهم خبايا النفس ومعرفة العمليات التي تجري في أذهاننا، قد يبدو الأمر مفاجئاً، إلا أنَّ الشرود الذهني في الحقيقة هو عامل أساسي في ممارسة تأمل تركيز الانتباه، في هذا النمط الأساسي من التأمل، يُطلب من الممارس تركيز انتباهه على شيء واحد، كالتركيز على الأحاسيس الجسدية المتولدة عن القيام بعملية التنفس.

يبدو الأمر سهلاً، إلا أنَّ الحديث عنه أسهل من تطبيقه على أرض الواقع؛ لذا جرِّب ذلك لبضع دقائق وراقب ماذا سيحدث.

إذا كنت كأغلب الناس، سرعان ما سينشغل ذهنك باجترار الأفكار والتخيل والتحليل والتخطيط، عند نقطة معينة، ستلاحظ أنَّ تركيزك لم يعد منصباً على أنفاسك، وعندها، يمكنك طرد الفكرة التي تشتت انتباهك، وتوجيه تركيزك على أنفاسك مجدداً، إلا أنَّه من المحتمل أن يتكرر حدوث ذلك خلال فترة وجيزة.

في البداية، قد يبدو أنَّ ميل الذهن إلى الشرود في إمكانه أن يقف عائقاً أمام القدرة على ممارسة تأمل تركيز الانتباه، لا سيما عند تشتت الانتباه عن الهدف ألا وهو التركيز على أنفاسك.

على الرغم من ذلك، فإنَّ الغاية من التدريب على ممارسة تأمل الانتباه المركز، هي تسليط الضوء على المسار الطبيعي للذهن، والعمل على جعلك أكثر قدرة على التحكم بكيفية توجيه انتباهك والانتقال من حالة الشرود الذهني إلى وضع التركيز، مع تكرار التدريب، لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً كي تلاحظ أنَّك تختبر شيئاً بمنزلة أحلام اليقظة أو التأمل، ويصبح من الأسهل توجيه تركيزك بعيداً عن تيار الأفكار الحالي الذي تشغل ذهنك به، ومعاودة صب انتباهك على تنفسك، أولئك الذين يتدربون على ممارسة تأمل الانتباه المركز، يغدو التخلص من الأفكار المشتتة للذهن بالنسبة إليهم أكثر سهولة.

لطالما أثار اهتمام علماء الأعصاب – ولاسيما مَن يمارسون التأمل منهم – معرفة ما يدور في ذهن الإنسان عند ممارسة التأمل؛ حيث يدفع الإلمام بممارسة التأمل من جهة والبحث العلمي من جهة أخرى إلى التساؤل عما سيحدث في حال جُمِع هذين الأسلوبين معاً، للحصول على تصوُّر أكثر دقة حول كيفية حدوث هذه العملية داخل الدماغ، من خلال اختبار انتقال الذهن من حالة الشرود إلى حالة التركيز في أثناء ممارسة التأمل.

شاهد بالفديو: 7 نصائح لتحسين مدى انتباهك وتركيزك

[wpcc-iframe class=”embed-responsive-item lazyload” src=”https://www.annajah.net/fe/images/annajah_large.jpg” width=”200″ height=”385″ frameborder=”0″ allowfullscreen=”” data-src=”https://www.youtube.com/embed/bLGiQ_HfF_I?rel=0&hd=0″]

قد تبدأ التفكير أوَّلاً بشبكة الوضع الافتراضي، وهي عبارة عن مجموعة من المناطق في الدماغ، يزداد نشاطها عندما لا نشارك في أداء عمل آخر؛ أي عندما نكون شاردي الذهن، لربما كانت شبكة الوضع الافتراضي هذه هي التي تستمر في التدخل في أثناء التأمل، مما يتعارض مع قدرتنا على تركيز انتباهنا، ولربما كانت هي ما نحاول تعلُّم ضبطه من خلال التدرب على ذلك مراراً وتكراراً، ولا بد من اختبار ذلك علمياً.

بدعمٍ ماديٍّ من معهد مايند أند لايف (Mind & Life)، وبمساعدة العاملين في جامعة إيموري (Emory University)، بدأ البحث عن مناطق الدماغ التي ترتبط بعملية التأمل؛ حيث طُلب من مُمارسي التأمل التركيز على أنفاسهم في أثناء فحص أدمغتهم، وتبيَّن أنَّهم كلَّما لاحظوا بأنَّ أذهانهم قد دخلت في حالة من الشرود، كانوا يضغطون على زر، ليتمكنوا من استعادة تركيزهم على أنفاسهم مرة أخرى كما جرت العادة، وكان التدريب يستمر على هذا النحو، وفي أثناء قيامهم بذلك، جُمعت بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي للكشف عن مناطق الدماغ التي كانت نشطة قبل أو في أثناء أو بعد الضغط على الزر، والتي تنسجم مع الحالات الذهنية المختلفة.

وقد توصَّلت الدراسة المنشورة في مجلة نيورو إيميج (Neuro Image)، إلى أنَّه في الواقع، خلال فترات الشرود الذهني، تنشط مناطق من شبكة الوضع الافتراضي في الدماغ، ومن ثم، عند ملاحظة المشاركين لهذا الشرود الذهني، نشطت مناطق الدماغ المسؤولة عن اكتشاف الأحداث البارزة، بعدها، نشطت مناطق من شبكة الدماغ التنفيذية، وأعادت توجيه الانتباه إلى الهدف المحدد، وكل ذلك تم خلال اثنتي عشرة ثانية بعد الضغط على الزر.

بالنظر إلى النشاط العصبي ضمن هذه الشبكات الدماغية؛ يمكن استنتاج أنَّه عندما تكون شارد الذهن، فإنَّك تمر بمرحلة إدراك ذلك أولاً، ثم التحول من معالجة الوضع الافتراضي بمشاركة العديد من الشبكات العصبية المسؤولة عن الانتباه؛ حيث إنَّ فهم الآلية التي يعمل بها الدماغ في حالات التركيز والتشتت، له آثار على مجموعة متنوعة من المهام اليومية.

على سبيل المثال، عندما تفقد تركيزك في الاجتماع، قد يكون من المفيد معرفة أنَّك تنتقل إلى الوضع الافتراضي، وفي إمكانك عندها إعادة توجيه تركيزك إلى ما يجري الآن من حولك، وهي مهارة في إمكانك تحسينها مع مرور الوقت.

فوائد تعزيز التركيز:

ما هي الآثار العملية الأخرى لممارسة التأمل؟ تُبيِّن الأبحاث السلوكية الحديثة أنَّ ممارسة التأمل تساعد على تنمية جوانب متعددة من الانتباه، لا سيما أنَّ التدرب على ممارسة التأمل يقوي الذاكرة ويزيد معدل الذكاء ويحسِّن أداء الطلاب في الامتحانات.

ليس من المفاجئ أنَّ هذا النوع من التدريب الذهني المتكرر هو بمنزلة الذهاب إلى النادي الرياضي، إلا أنَّك تعمل على بناء ذهنك بدلاً من عضلاتك، وإنَّ الشرود الذهني هنا، هو بمنزلة الوزن الذي تضيفه إلى آلة رفع الأثقال؛ حيث إنَّك تحتاج إلى بعض المقاومة لتعزيز المهارة التي تعمل على بنائها، بدون عرقلة الشرود الذهني لمحاولاتك في الحفاظ على تركيزك، كيف سيكون في إمكانك تنمية مهارات مراقبة حالتك الذهنية وتوجيه انتباهك؟

في هذه الدراسة، اختُبِر أثر ممارسة التأمل مدى الحياة على النشاط الذهني، بالتزامن مع العدد المتزايد من الدراسات، وُجِد أنَّ التجربة على قدر عالٍ من الأهمية، والتي بيَّنت أنَّ ممارسي التأمل الأكثر خبرة، لديهم مستويات مختلفة من النشاط الذهني في الشبكات ذات الصلة؛ وهو ما يشير إلى أنَّ آلية عمل أدمغتهم ربما قد تغيرت نتيجة لممارسة التأمل على نحو متكرر، وهو ما يعرف بالمرونة العصبية.

برزت منطقة واحدة من الدماغ عند إجراء هذا التحليل؛ قشرة الفص الجبهي الإنسي، وهي جزء من شبكة الوضع الافتراضي المرتبطة تحديداً بالأفكار التي تركز على الذات وتساهم إلى حد كبير في الشرود الذهني، اتضح أنَّ ممارسي التأمل ذوي الخبرة، استطاعوا إلغاء تنشيط هذه المنطقة بسرعة أكبر بعد إدراكهم لحالة الشرود الذهني، مقارنة بأولئك الذين لا يمارسون التأمل بالقدر نفسه، مما يشير إلى كونهم أكثر قدرة على التخلص من الأفكار المشتتة للانتباه، كالتفكير بقائمة المهام التي عليهم إنجازها، أو بعض المهام البسيطة التي وجدوا صعوبة في أدائها يوم أمس.

في دراسة لاحقة، تبيَّن أنَّ هؤلاء المشاركون أنفسهم، كان لديهم ارتباط أقوى بين النشاط في قشرة الفص الجبهي الإنسي، ومناطق الدماغ التي تسمح بعزل الانتباه؛ هذا يعني أنَّ مناطق الدماغ المسؤولة عن تشتيت الانتباه المتعمد، تتمتع بقدرة أكبر على الوصول إلى مناطق الدماغ التي تسبب الإلهاء، مما يجعل تشتت الانتباه أسهل، تدعم نتائج أخرى هذه الفكرة، فممارسو التأمل الأكثر خبرة لديهم اتصال أقوى بين الوضع الافتراضي ومناطق الدماغ المسؤولة عن الانتباه، ويكون نشاط الوضع الافتراضي لديهم أقل في أثناء ممارستهم التأمل.

يفسر هذا كيف أنَّ اكتسابك مزيد من الخبرة في ممارسة التأمل، يساعدك على التخلص من الأفكار المشتتة للانتباه على نحو أسهل، ومن ثم يعزز قدرتك على التركيز؛ حيث إنَّك قمت بإعادة برمجة ذهنك برمجة تجعله أكثر قدرة على إدراك حالة الشرود والخروج منها، إذا كنت قد عانيت سابقاً من إعادة التفكير في التجارب السابقة الأليمة وإعادة استحضارها مراراً وتكراراً، أو أنَّك تشعر بالتوتر السلبي إزاء حدث مقبل، سيكون من المفيد لك أن تتخلص من الأفكار السلبية.

في الواقع، إنَّ دراسة كل من كيلينغزوورث وجيلبرت التي أتينا على ذكرها آنفاً، توصَّلت إلى أنَّه عندما يعاني الأفراد من الشرود الذهني، يميلون إلى كونهم أقل سعادة؛ وذلك غالباً بسبب استحضارهم لتجارب سيئة أو تثير توترهم، ولهذا السبب غدا التأمل اليقظ علاجاً متزايد الأهمية لمشكلات الصحة النفسية كالاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة وحتى العجز الجنسي.

إنَّ معرفة كل ذلك قد تجعلك تظن بأنَّنا سنكون بحال أفضل إذا تمكَّنا من عيش حياتنا في حالة مستمرة من التركيز الثاقب، إلا أنَّ الشرود الذهني ليس سيئاً بالمجمل، فمن خلال استثماره على نحو صحيح نستطيع بناء تركيزنا، إضافة إلى أنَّ القدرة على الانفصال عن الواقع وتخيُّل سيناريوهات وهمية؛ هي بحد ذاتها قيمة تطورية كبيرة، وهو ما قد يفسر سبب بروزها في حياتنا الذهنية.

هذه العمليات تفسح المجال للإبداع والتخطيط وتقوي المخيلة وتعزز الذاكرة، وهي ضرورية من أجل الحفاظ على استمرارنا، وضرورية لجوهر الإنسان أيضاً.

إنَّ الحل يكمن في تعلُّم كيفية إدراك هذه الميول العقلية واستخدامها استخداماً مدروساً، بدلاً من السماح لها بالسيطرة علينا، ويمكن للتأمل أن يساعد على ذلك.

لذلك لا تَقسُ على نفسك في المرة المقبلة التي تجد فيها نفسك شارد الذهن؛ وذلك لأنَّ الشرود أمر طبيعي، واستخدم ذلك كفرصة لتغدو أكثر إلماماً فيما يتعلق بتجربتك الذهنية، ولكنَّك قد ترغب في استعادة تركيزك وتوجيه انتباهك على اللحظة الحالية، والإجابة عن ذلك السؤال الذي ما زال الجميع بانتظار إجابتك عنه.

المصدر

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!