التدمير الذاتي: رؤية قاصرة لقوانين الحياة

"هذا ليس الواقع الذي أطمح فيه، فأنا أستحق أفضل منه بكثير"، "أنا لا أفهم كيفيَّة إدارة هذا الكون. انظر إلى الظلم المُستشري في هذا العالم، وإلى الأغنياء الفاسدين المحظوظين، وإلى الفقراء المظلومين"، تتصدَّر هذه الجمل قائمة أفكار أغلب الناس، مؤدِّيةً إلى عملية تدميرٍ ذاتيٍّ مُرعِبة، وذلك دون وعيٍ من قِبل هؤلاء الأشخاص. فما هو التَّدمير الذَّاتي؟ وما هي السُّلوكات التي تُنشِّطه؟ وكيف نحمي ذواتنا من الوقوع في شركه؟ هذا ما سنتعرَّف عليه من خلال هذا المقال.

Share your love

تتصدَّر هذه الجمل قائمة أفكار أغلب الناس، مؤدِّيةً إلى عملية تدميرٍ ذاتيٍّ مُرعِبة، وذلك دون وعيٍ من قِبل هؤلاء الأشخاص. فما هو التَّدمير الذَّاتي؟ وما هي السُّلوكات التي تُنشِّطه؟ وكيف نحمي ذواتنا من الوقوع في شركه؟ هذا ما سنتعرَّف عليه من خلال هذا المقال.

بين الاستحقاق والتدمير الذاتي:

لدينا بدايةً مفهومان للاستحقاق: الاستحقاق الشامل، والاستحقاق الخاص. يتبنَّى الاستحقاق الشامل المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الكون، وهو أنَّ اللّه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأعطاه العقل، بحيث يستحق أفضل ما في الحياة في المجالات كافة: الصحية، والنفسية، والجسدية، والمهنيَّة، والعاطفيَّة. أمَّا ما يقوم به الإنسان من أفعال، وما يأخذ به من أسباب؛ فيحدِّد شكل الواقع الذي يحياه، وهو ما يُسمَّى: الاستحقاق الخاص.

هنا على الإنسان أن يسأل نفسه: “هل استحقاقه الخاص مُنسجِمٌ مع الاستحقاق العام الشامل؟ أم أنَّه بعيدٌ عنه؟”، وفي حالة البعد وعدم التناغم عليه أن يسأل نفسه عن الأفعال والأسباب التي قام بها لاستحقاقه هذا الواقع.

تحدث حالة التدمير الذاتي في حال عدم فهم الإنسان لمفهوم الاستحقاق الحقيقي، فتراه يقوم بفعل أشياء تُعطِّل وصوله إلى أهدافه، بعد أن يكون قد اقترب من تحقيقها؛ فيعود بالتالي إلى حالته السلبية السابقة.

يكون الإنسان في حالةٍ من السكينة والهدوء عندما يعيش استحقاقه الحقيقي؛ بينما يكون دائم التَّوتر والقلق والضِّيق النفسي عندما يعيش وهم الاستحقاق أو التدمير الذاتي.

مُحفِّزات التدمير الذاتي:

1. عدم الإقرار بالاستحقاق الحقيقي:

يظهر التَّدمير الذاتي في حياة الإنسان عندما يقول: “ليس هذا ما أستحقُّه من الحياة”، غير واعٍ أنَّ الاستحقاق الحقيقي يتكوَّن من أفعالٍ وأسبابٍ يُنتِجان معاً الواقع. إذاً، ما نعيشه هو استحقاقنا أيَّاً كان الواقع الذي نعيشه.

اللَّه تعالى لا يظلم أحداً، يقول تعالى في سورة النحل: “وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)”. إذاً، عندما تجد طفلاً صغيراً مريضاً، تأكَّد أنَّ هذا استحقاقه في هذه الحياة، حتَّى دون وعيك للرسالة الحقيقية من ذلك؛ فمن الصعب جداً الإدراك الكامل لإرادة اللَّه في الكون، لكن بمجرَّد إدراكك لحالة الاستحقاق الحقيقي، ستستحق عندها أن تصبح جاهزاً لإدراك معانٍ خفيَّةٍ من قوانين الحياة.

تُحفِّز حالة الوعي للاستحقاق الحقيقي الإنسانَ للبحث بعمقٍ في تفاصيل حياته، كأن يسأل نفسه بصدقٍ ووعي:

  • “ما الذي فعلته كي أستحق ما أنا فيه؟”.
  • “ما هي الأفكار السلبية التي لدي، والتي أوصلتني إلى هكذا واقع؟”.
  • “ما سبب عدم الانسيابية بين استحقاقي الخاص، والاستحقاق العام الذي هو أصل الحياة؟”.

2. التَّركيز على السعي الجسدي:

يتحدَّد واقعنا من قبل أفعالنا والأسباب المُجسِّدة للاستحقاق، فعلى سبيل المثال: “قامت إنسانةٌ بسلوكاتٍ سلبيةٍ من غيبةٍ ونميمةٍ وسخريةٍ من الآخرين، فاستحَّقت بذلك الضيق النفسي والألم في واقعها. سيتجسَّد لها الضيق النفسي من خلال معاملة زوجها السيئة مثلاً، ليكون بذلك زوجها هو السبب أو الطريقة التي جُسِّد بها هذا الاستحقاق”.

يوجد ثلاثة أنواعٍ للأفعال التي تُفعِّل الاستحقاق الحقيقي:

  • أفعالٌ عن طريق العقل: وتتمثَّل بالأفكار.
  • أفعالٌ عن طريق النفس: وتتمثَّل بالمشاعر والأحاسيس والروحانية.
  • أفعالٌ عن طريق الجسد: وتتمثَّل بالحركات الجسديَّة والفيزيائيَّة.

ويكتمل السعي باكتمال العناصر الثلاث، لكنَّ سعي الجسد يحتلُّ النسبة الأصغر من الاستحقاق، في حين يحتل سعي كلٍّ من النَّفس والعقل النسبة الأكبر (97%). لذلك، يُفعِّل مَن يُركِّز على الجانب الجسدي من تدريبات الاستحقاق التَّدميرَ الذاتي.

على سبيل المثال: أولئك الذين يعتقدون أنَّهم يستحقُّون الأفضل في كلِّ شيء، فيشترون أغلى الماركات، مع أنَّ دخلهم لا يسمح لهم بذلك؛ ممَّا يجعلهم في حالةٍ من الضَّغط النفسي والتوتر الدائم. يعيش هؤلاء وَهْمَ الاستحقاق، ويُفعِّلون التدمير الذَّاتي.

تعيش حالة الاستحقاق الحقيقي عندما تَعِي أنَّ واقعك الآن هو أفضل المُتاح، وأنَّك مُتقبِّلٌ له ومُستَمتعٌ وواثقٌ أنَّ اللّه سيَهب لك المزيد دوماً؛ بمعنى: أن تُركِّز على أفكارك ومشاعرك، لا على المظاهر الخارجيَّة الكاذبة.

3. الفرح بالماديات:

يُفعِّل حالة التدمير الذَّاتي مَن يحيا حياته مُقدِّساً للماديات وعبداً لها، مُتناسياً صاحب الفضل الكبير بكلِّ هذه الماديات، وغير واعٍ أنَّ القيمة أهمُّ بكثيرٍ من الشهوة.

إنَّ مَن يفرح بالماديات بشدةٍ يُعلِّق باللاوعي كامل سعادته عليها، ويعترف أنَّه صغيرٌ وأنَّها عظيمة. على سبيل المثال: يتقدَّم شخصٌ ما إلى وظيفةٍ ما، ويبذل جهده للحصول عليها، وبعد اقترابه منها، يفرح فرحاً عظيماً، كأنَّه علَّق كلَّ آماله وأمانيه عليها؛ لذلك سيفقد عندها الوظيفة، فهو نسي الفرح برحمة اللّه وفضله، وصبَّ كلَّ فرحه وطاقته على المادة، حيث يستطيع أن يفرح بالوظيفة لكن دون مبالغةٍ وعبوديَّةٍ للمادة.

ينتصر مَن يفرح بالقيمة الحقيقيَّة، وينظر إلى الماديات كمُتعةٍ مُضافةٍ إلى القيمة.

4. التركيز على التفكير الخطي:

من يَعتمد التفكير الخطي يُسرِّع من حالة التدمير الذاتي، فهو يتعامل مع خطواتٍ خطيَّةٍ واضحةٍ للوصول إلى الأهداف، ولا يستطيع فهم الأمور إلَّا بطريقةٍ عقلانيَّةٍ متسلسلةٍ مُجرَّدة؛ ممَّا يُعيقه من التقدُّم في الحياة، نظراً لعدم اعترافه إلَّا بما هو ملموس. يميل أشخاص هذا النَّمط من التفكير إلى الإلحاد، ويُمثِّل هذا التفكير مرحلةً من الوعي تَسبِقُ مرحلة التفكير اللاخطي، والذي يتميَّز بحالةٍ إبداعيةٍ تربط بين عناصر قد تبدو مستحيلة الربط، ويتعامل مع الأمور الواضحة وغير الواضحة بطريقةٍ فعَّالةٍ ومُثمِرة.

على سبيل المثال: لا يفهم ذو التفكير الخطي وجه الترابط بين السلوكات السلبية مثل: الغيبة والنميمة والوعود الكاذبة، وبين تأخُّر وصول الشخص إلى شغفه وهدفه في الحياة؛ ذلك لأنَّه لا يرى عملية الربط بعينه، ولا يستطيع الاقتناع بها؛ بينما يقتنع الشخص اللاخطّي بهذا الربط ويتبنَّاه ويدافع عنه.

يسعى ذو التفكير الخطي إلى التخطيط المتكامل، ولا يستطيع التقدُّم إن لم يكن قد رأى الصورة الكاملة، ودرس جميع الحيثيَّات وتأكَّد منها؛ بينما يميل الشخص اللاخطي إلى الانطلاق من الإمكانيات المُتاحة، والسعي خطوةً خطوة، مع التركيز على الطاقة المُستمَّدة من المصدر (الإله)، وعلى نسف القناعات السلبية، وبناء قناعاتٍ إيجابيَّةٍ تخدم رسالته في الحياة.

كيفية تفعيل الاستحقاق الحقيقي والابتعاد عن التدمير الذاتي:

1. الإحسان:

يكمن الإحسان في الفهم الحقيقي للاستحقاق، فعلينا أن نُولِي كلَّ جانبٍ من جوانب حياتنا الإحسان المُقدَّر له، فعلى سبيل المثال: أن نبتغي الإحسان في دخلنا الشَّهري أيَّاً كان مقداره الحالي، بحيث نقسِّمه إلى ما يلي: قسمٌ للمواصلات، وقسمٌ للاهتمام بالعقل من شراء كتبٍ أو حضور دوراتٍ تدريبيَّة، وجزءٌ للاهتمام بالجسد من رياضةٍ وأكلٍ صحيٍّ وشراء ملابس، وجزءٌ هامٌّ جداً من أجل الصَّدقة، وجزءٌ من أجل الادِّخار، وقسمٌ من أجل الترفيه من نزهاتٍ وما إلى ذلك. بهذه الطريقة تكون قد أشبعت أركان الاستحقاق من إشباعٍ للعقل والنفس والجسد، وضمن الإمكانيات المُتاحة، وبحالةٍ من الاستمتاع والرضا بالواقع الحالي، وبالتالي ستُفعِّل الانتقال إلى حالة الثراء والمُتعة الأكبر.

2. الفرح بالقيمة:

القوة الحقيقية أن تشعر بالرضا والقبول وأنت ترتدي زيَّاً بسيطاً مناسباً لإمكانياتك الحالية، لكنَّك مُدرِكٌ أنَّ أفكارك وسعيك النفسي والعقلي وطاقتك الإيجابية وقانون الحياة سيمنحونك مزيداً من المُتعة والثروة.

لا تلهث وراء المظاهر الخدَّاعة لكي تجترَّ مشاعر إيجابيةً زائفة، كالذي يستأجر سيارةً فارهةً مع أنًّ إمكانياته لا تسمح له بذلك، فقط لكي يعيش إحساس الوفرة والغنى، دون علمه أنَّه إحساسٌ وهمي؛ لذا اجعل تغييرك عميقاً وليس سطحياً. غيِّر من قناعاتك وأفعالك، وعندها يتغيَّر واقعك بطريقةٍ حقيقيَّةٍ وليست مُزيَّفة.

3. الثقة بالله وبالذات، ومراقبة الأفعال، واكتشاف الأسباب:

لا تكن شخصاً خطِّياً جامداً، بل أطلق العنان لعقلك وقلبك، ولا تبقَ أسير الموروثات والأفكار السابقة أو الأمور المُجردة الملموسة. فكلُّ مَن نجح وقدَّم قيمةً وأصبح ثرياً هو إنسانٌ آمَنَ بطاقةٍ غيبيةٍ كبرى هي: اللَّه، وآمن أنَّ أفكاره هي الأساس، وأنَّ العلم والتطور والمرونة أساس كلِّ شيء.

من جهةٍ أخرى، ثق بنفسك وقدراتك، فالسَّبب الأساسي وراء عدم وصولك إلى أهدافك هو أنَّك ترى أنَّها أكبر منك وأنَّك صغيرٌ أمامها، وتتعلَّق بها بطريقةٍ مَرَضِيّةٍ وماديّة، وتَعقِد سعادتك عليها؛ لذلك تجذب عكسها.

قُل أنَّك متحررٌ من الماديات ومن نظرة الناس إليك، وراضٍ بالمُتاح لك، وستسعى إلى الأفضل، وأنَّك واثقٌ من أنَّ قدراتك عظيمة، وأنَّ مشاعرك أكبر من الهدف، وأنَّك ستصل إليه، مع الاعتراف بفضل اللّه دوماً وأنَّه هو الرَّازق، فلا تقلق إن فاتتك فرصةٌ ما؛ لأنَّ الثقة باللَّه طاقةٌ غير محدودةٍ ولا تنضب من الفرص والخير والعطاء، واستشعر النيَّة الصَّادقة في تقديم قيمةٍ مُضافةٍ إلى المجتمع.

ولكي تعلم خفايا واقعك، راقب أفعالك، واكتشف الأسباب المُحقِّقة لاستحقاقك. على سبيل المثال: يستحقُّ الزوج الذي يُسيئ معاملة زوجته، ويُكرِهُها على فعل أمور لا تريدها، وينتهك حريتها، ويُسيطرعليها؛ الألم النفسي والضيق بمقدار ما سبَّبه لزوجته، وقد يظهر له هذا الاستحقاق من خلال رئيسه الظَّالم في العمل، بحيث يُسيئ رئيسه معاملته ويُهِينه، وبذلك يكون رئيسه سبباً لتحقيق استحقاقه.

الخلاصة:

إنَّ اللّه حقّ، فقُل دوماً بحالةٍ من الرضا والسعادة: “كلُّ ما أنا عليه الآن هو أفضل استحقاقٍ لما أقوم به من أفعال، وأنا سأسعى إلى مزيدٍ من الأفعال الإيجابية، وإلى إشباع عقلي ونفسي؛ وذلك لكي أستحقَّ مزيداً من الأسباب التي تُحقِّق لي مزيداً من المُتعة والوفرة والرَّاحة والشَّغف”.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!